الدمعة الساكبة لا الدمعة الواعية
البكاء تعبير عن حالة عاطفية، والعاطفة لا تخضع في تجليها ومظهرها إلى حالات العقل كما في سائر الأفعال المقصودة؛ فالحزن حالة اندفاع للتعبير عن شعور باطني يكتسح النفس مُظهرًا كل ما فيها. والشعور العاطفي هو وليد اللحظة والسليقة وليس ثمرة التخطيط والسيطرة. إنك لا ترى مكلومًا يختار قضية نواحه، ولا ترى حزينًا يخزن حزنه لقضية ينتظر استحقاقها، ولا ترى مفجوعًا يختار هيئة تفجعه، ولا ترى دمعة تختار توقيتها ومحركها .. فالحزن وتجليه لا يحتاج إلى تبرير.
إن أفعال الحزن والجزع والتفجع ليست خاضعة للحسابات المنطقية ولا هي واقعة تحت مظلة التأمل العقلائي إنما هي حالات وأطوار تتشكل بحجم انفجارها في النفس فتظهر على الجوارح بقدر طاقة انفجارها.
دعوات الدمعة الواعية، والحزن الهادف وأمثالها من دعوات تدعو إلى إخراج الحزن من حالته وتحويله إلى مشهد تمثيلي يوظف حالات النفس لأجل قضايا سياسية أو اجتماعية هو سلب لهذا التفجع والجزع، وتحويل الحزن من حالته العاطفية المعبرة عن واقع الحال إلى رياء يستورد مظاهر الحزن دون الحزن ذاته ليستغلها في التسويق لمشاريعه أيًا كانت هذه المشاريع: سياسية أو اجتماعية أو نفوذ ديني وفكري!
تأكيد الأئمة عليهم السلام على حالة النواح، والبكاء، بل والتباكي إن أعجزَ انفجار الحزن في النفس هَمْر الدموع، وإزاحة كراهية الجزع من الجزع على مصابهم عليهم السلام، والتأكيد على احياء أمرهم بإبقاء الألسنة لاهجة بمصابهم. ولاحظ هنا كيف أتت كثير من الروايات بضرورة "معرفة" فضلهم ولكنها أكدت على "تذكر" مصابهم ورثائهم، فالمعرفة شأن العقل، والتذكر شأن النفس، وحالات النفس أشد ظهورًا على الجوارح، كلها امارات على أن الحزن لا يجب أن يعاد توظيفه لأجل غاية أخرى تخرجه عن حقيقته وهي التفاعل مع مصائب أهل البيت عليهم السلام، فالدمعة غاية ومقصد بحد ذاتها.
ومن هنا تفهم كيف أن تلك الدعوات وإن كان ظاهرها جلب الخير للمجتمعات وجاذبة لوجدان العوام الناقمين من أحوال مجتمعاتهم إلا أنها في الواقع سرقة للقضية، وتحويرٌ لها؛ والدين أجلّ وأسمى من أن تكون نقمة عوام الناس على مجتمعاتهم مصدرًا لتشريعاته، أو تكون أطروحات الأحزاب ونتاج فكر البشر لآيدلوجياتهم مقاصدًا لأحكامه.
نسأل الله سبحانه ببركة الطاهرين عليهم السلام أن يجعل حزننا خالصًا لهم، معبرًا عن واقع تفجعنا عليهم، "وقليلٌ تتلف الأرواح في رزء الحسين"
تعليقات
إرسال تعليق