كلامٌ حول حديث «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»
السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قرأت كلاما للشيخ حيدر حب الله في كتاب دراسات في الفقه الاسلامي المعاصر الجزء الثالث، صفحة ٥٠٧. وكان بصدد الكلام عن الامارات التي تكشف وضع الحديث فذكر منها ورود اصطلاحات غريبة متأخرة عن زمن النص ومثّل لذلك برواية. انقل لكم في المرفق ادناه كلامه بنصه. فهل ما ذُكر تام أم هو قابل للعلاج؟ تحياتي لكم.
مرفق: نص كلام الشيخ حيدر حب الله:
(... ومثال ذلك، التعبير الوارد في كلام الإمام علي (عليه السلام) في رواية مرسلة عن المرأة بأنها: "ريحانة وليست بقهرمانة" [١٠٠]، فقد قيل بأنّ كلمة: "قهرمانة" كلمة تركية، واللغة التركية لم تغزُ اللغة العربية إلا في القرن الثاني الهجري، فكيف يقف الإمام علي قبل عام 40هـ لقول هذه الكلمة دون أن يسأله أحدٌ عنها؟! ...).
الجواب:
إنّ الأمارة المشار إليها في الكلام تشكِّلُ قرينةً قويَّةً لاكتشاف الحديث الموضوع، وهي سليمة بلا إشكال، وقد أشرتُ إلى تطبيقها من قبل عند الكلام حول الحديث المروي عن كميل بن زياد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) والمعروف بحديث الحقيقة، فراجعه.
أما التطبيق المشار إليه فغير صحيح وفيه عجلةٌ في إطلاق الحكم، وبيان ذلك بوجهين:
الوجه الأوّل: إنَّ كلمة «قهرمانة» ليست تركيّـةً بل هي كلمةٌ فارسيّةٌ، كما ذكروا ذلك عن سيبويه، ونصّ عليه السيرافي في شرحه للكتاب، وغيرهما من أهل اللغة كابن الأثير في النهاية، وقد ذكرها اللغوي الإيرانيّ علي أكبر دهخدا في معجمه (لغتنامه دهخدا) وأكّد على عدم كونها عربيّة.
ومن المعلوم لدى أهل اللغة وقوع استعمال العرب لبعض الكلمات الفارسيّة في كلماتهم وأشعارهم، قبل الإسلام وبعده، وقد قال جمعٌ منهم بوقوع ذلك في القرآن الكريم، نحو كلمة: استبرق - مرجان...إلخ، فلا غرابة في استعمال أمير المؤمنين (عليه السلام) لمثل هذه الكلمات.
وقد ورد استعماله (عليه السلام) لكلمات فارسية أخرى، فمن ذلك ما رواه الرضي في (نهج البلاغة): (وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والوضوح بالبهمة، والجمود بالبلل، والحرور بالصرد، مؤلفٌ بين متعادياتها)، فكلمة (الصرد) هي فارسيّة، معرّبة عن (سرد) وهو البرد.
وقد كُتبت دراسات عن وقوع هذا الأمر في الشعر الجاهلي، ومنها: (المفصل في الألفاظ الفارسيّة في الشعر الجاهلي والقرآن الكريم والحديث النبوي والشعر الأمويّ) للدكتور صلاح الدين المنجد، فراجعه ففيه فوائد.
الوجه الثاني: لو سلّمنا بأن هذه الكلمة تركية، فإنّ استعمال العرب لبضع كلماتٍ من لغةٍ ما – ولا سيما إن كانت قريبة جغرافيّاً - لا يتوقف على وقوع «الغزو»، فيمكن حصول هذا من خلال المجاورة أو المخالطة اليسيرة التي يلتقي فيها العرب خلال رحلات تجارتهم بأهل الألسنة الأخرى، والدراسات اللسانية لا تقبل فكرة استقلال اللغات في نفسها وتمحُّضها في ذاتها، ولا تتوقف في قبول تأثر اللغات وتأثيرها ولا سيّما مع التقارب الجغرافي والاختلاط المتكرر، وهذا هو الظاهر من تاريخ اللغات.
فالحكم على الحديث بالوضع لهذه العلّة لا يخلو من ملاحظاتٍ علميّة، والمأمول أن يكون نقد الحديث مرتكزاً إلى التدقيق اللغوي والنقد المتني المُعمّق والمستند إلى الأدلة المحققة في محلها. هذا ما يمكن التعليق به بإيجاز في المقام، وللكلام عن أمارات الحديث الموضوع تفصيلاتٌ لا يتسع لها الوقتُ الآن.
تحية مباركة لهذا القلم الصامد.
ردحذفإن أجمل درس نأخذه من هذا النقد هو التريث،والتأمل الطويل،والسعي الحثيث قبل تنفيذ إصدار الحكم؛ لأن الشيخ حيدر في حكمه قد أغلق الباب على المسألة بإحكام.
ولو أنه أسبق الحكم بكلمة "لعل"، أو "ربما"
أو ما يشابه ذلك؛ لكان قد حرَّك عود ثقاب العقل؛ ليشتعل بالفكر،وينطلق بحثا عن هذه المسألة في كل منافذ الاحتمالات الممكنة،والخوض في أعماقها بالأدوات التي يجيدونها،فتتحقق الأهداف من فتح مساحة واسعة؛من أجل دفع عجلة الباحثين للكشف
عن بواطن العلم،والمعرفة.
قبلة معطرة لهذا المجهود نلصقها على جبين الشيخ
إبراهيم جواد؛تعبيرًا عن الشكر،والتقدير داعين له بالتوفيق،والسداد.