العالَم ينتظر العلم والدين

الشيخ حسنين الجمال


بعد أن ابتُلي العالَم ببلاء عامّ، لا يميّز صغيرا عن كبير، ولا ذكرا عن أنثى، ولا غنيا عن فقير، انسدل ستار الحيرة في بعض الأرجاء، حتى كتب بعضهم: "العالَم ينتظر العلم لا الدين، فالدين لا يمكنه تقديم الحلول، فإذًا لا حاجة إلى الدين".
وفي مقام تحليل هذا الكلام لمعرفة مدى إصابته للحقيقة ومدى مجانبته للصواب، نقول:
هذا الكلام مؤلف من مقدمات ونتائج:

أما المقدمات فهي:
1- يوجد بلاء عامّ حلّ على هذا العالَم
2- العلم بإمكانه تقديم الحلّ
3- الدين لا يمكنه تقديم الحلّ لهذا البلاء

أما النتائج المتفرعة عنه فهي:
1- لا حاجة إلى الدين
2- العالَم ينتظر العلم لا الدين

وبين يدي هذا الكلام، من المنطقي أن تواجهنا الأسئلة التالية:
1- هل مقدمات هذا الكلام صحيحة؟
2- على فرض صحتها، هل يمكننا من الناحية المنطقية أن نستخلص هذه النتائج المذكورة؟ أم أن النتائج المنطقية لهذه المقدمات –على فرض صحتها كلها- هي أمور أخرى؟
3- على فرض وجود خلل في بعض هذه المقدمات، ما هي النتائج المتفرّعة بنحو منطقي عن هذه المقدمات بعد معالجة خللها؟

السؤال الأول: هل مقدمات هذا الكلام صحيحة؟هذا الكلام مبنيّ على ثلاث مقدمات:
أما المقدمة الأولى –وهي حلول بلاء عام على هذا العالم-، فهي مقدمة صحيحة مشهودة لنا.
أما المقدمة الثانية –وهي أن العلم بإمكانه تقديم الحل-، فهذا أمر مقبول من الناحية العقلية؛ إذ لا يوجد مانع عقلي من أن يؤدي تراكم الجهود العلمية والتجارب البشرية إلى العلاج الطبي لهذا المرض العالمي. مع الالتفات إلى أن عدم المانع من وصول العلم إلى الحل، لا يعني أنه سيصل حتما.
وأما المقدمة الثالثة –وهي أن الدين لا يمكنه تقديم الحل في هذا المجال-، فإننا نسأل: ما مرادكم من الدين هنا؟
1. إن كان المراد من الدين إلهَ العالم –أو ما يسمى بالعلة الفاعلية-، فهذا كلام غير صحيح؛ لأنه ثبت بالأدلة العقلية اليقينية أنه يستحيل أن يستقر وجود في عالم الواقع دون ارتباطه بهذا الإله، مهما كان نوع هذا الوجود.
وبناء عليه، حتى العالِم وعلمه وعلاجه المكتشَف، محتاجون في وجودهم إلى هذا الإله؛ بل كل ما في العالَم متقوِّم في وجوده بهذا الإله.

2. وإن كان المراد من الدين العاجز عن تقديم العلاج هو النصوص الدينية التي بين يدينا –ونظرنا فعلا إلى النصوص الإسلامية من قرآن وروايات عن المعصومين (ع)-، فإنّا نقول:
الوظيفة الأساس لهذه النصوص الدينية هي بيان الطريق الصحيح الذي يجب أن يسلكه البشر للوصول إلى سعادتهم الحقيقية وكمالهم اللائق بهم. وقد قامت هذه النصوص بهذه المهمّة على أكمل وجه، كما أنها أرشدتنا إلى ضرورة الاعتناء بالعلوم البشرية لأجل تلبية حاجاتنا والوصول إلى هدفنا الأصلي. فلسنا ننتظر من هذه النصوص أن تقدّم لنا العلاج الطبي لكل مشكلة طبية، ولا الحل الرياضي لكل معضلة رياضية نقف عندها، وما شاكل.  نعم، لقد قدّمت لنا التوصيات الأساسية والخطوط العامّة التي يجب مراعاتها على المستويين: المعرفي والنفسي، حتى لو كنّا في صدد الاستفادة من العلوم للوصول إلى الاكتشافات العلمية.
إذا اتضحت هذه المقدمات وتحليلها الصحيح، ننتقل للإجابة عن السؤال الثاني.

السؤال الثاني: على فرض صحتها، هل يمكننا من الناحية المنطقية أن نستخلص هذه النتائج المذكورة؟ أم أن النتائج المنطقية لهذه المقدمات –على فرض صحتها كلها- هي أمور أخرى؟
اتضح في الجواب عن السؤال السابق وجه الصحة في هذه المقدمات، لكن لو غضّينا النظر عن ذلك، وسلّمنا جدلًا بأنها صحيحة كلها، فالنتائج المترتبة بنحو منطقي عليها هي:
أما المقدمة الأولى –وهي حلول بلاء عام على هذا العالم-، فنتيجتها المنطقية: ضرورة السعي لمواجهة هذا البلاء، إذ لا يستحيل عقلا مواجهته والتغلّب عليه.
أما المقدمة الثانية –وهي أن العلم بإمكانه تقديم الحل-، فنتيجتها المنطقية: ضرورة بذل الجهود العلمية للوصول إلى الحل.
وأما المقدمة الثالثة –وهي أن الدين لا يمكنه تقديم الحل في هذا المجال-،
فنتيجتها المنطقية: أننا لا ننتظر من الدين أن يقدم لنا الوصفة الطبية لهذا المرض. لكن هذا لا يعني أننا نستنتج عدم الحاجة مطلقا إلى الدين وفي كل المجالات؛ إذ نحتاج إلى الدين في مجالات أخرى، أهمها: بيان الطريق الصحيح للسعادة الحقيقية، وهذا ما لم تخدش به هذه المقدمة.

ومن هنا يتضح، أن النتائج التي ذُكرَت في هذا الكلام –وهي: (1) لا حاجة إلى الدين، و (2) العالم ينتظر العلم لا الدين- غير صحيحة إن أخذناها على إطلاقها، بل النتيجة المنطقية المتفرعة عن هذه المقدمات –على فرض تسليم صحتها- هو:
1- لا ننتظر من الدين أن يقدم لنا الوصفة الطبية لهذا المرض
2- العالَم ينتظر العلم لتقديم الوصف الطبية لهذا المرض


السؤال الثالث: على فرض وجود خلل في بعض هذه المقدمات، ما هي النتائج المتفرّعة بنحو منطقي عن هذه المقدمات بعد معالجة خللها؟بناء على ما تقدم، يتضح أن المقدمات المذكورة في الكلام، فيها شيء من الخلل، وبيانها الصحيح هو:
1. يوجد بلاء عامّ حلّ على هذا العالَم
2. العلم بإمكانه تقديم الحلّ
3. الدين:
3.1. بمعنى الإله: فإن كل شيء في هذا الإله يتقوّم به، حتى العالِم والعلم والعلاج المكتشَف
3.2. بمعنى النصوص الدينية: فإنه لا يُنتظَر منها تقديم الوصفة الطبية لهذا المرض العالمي.

والنتائج المتفرعة بنحو منطقي عن هذه المقدمات الصحيحة:
1. يجب السعي لمواجهة هذا البلاء
2. يجب بذل الجهود العلمية لأجل استكشاف الحل
3. نحن نحتاج دوما إلى الإله، ولا يمكن التخلي عنه لحظة من اللحظات
4. لسنا نطالب النصوص الدينية بتقديم الحلول الطبية لهذا المرض العام؛ نعم، هي تقدم لنا الضوابط المعرفية والنفسية التي يجب مراعاتها أثناء البحث العلمي
فمن الخطأ أن نقول: العالَم ينتظر العلم لا الدين؛ بل الصحيح أن نقول على ضوء كلّ ما سبق:
"العالَم ينتظر العلم والدين "*.

في الختام، أسأل الله العزيز القدير أن يمنّ على البشرية جمعاء بالشفاء من كل الأمراض المعنوية والمادية، وأن يكفينا ما أهمّنا من أمر الدنيا والآخرة، إنه أرحم الراحمين.
والحمد لله رب العالمين

*  في مورد هذا المرض العالمي –كما في أية حالة أخرى-، يكون العالَم منتظرا للدين بمعنى الإله. وأما الدين بمعنى النص الديني، فالعالَم يحتاج إليه في كل مساره نحو الهداية. نعم، قد يتوصل العلم إلى علاج لهذا المرض دون النصوص الدينية، لكن هذا لا يعني الاستغناء عنها مطلقا، فالتفت!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

هل ورد أن "أبا صالح" كنيةٌ للمهدي عج؟