لم العزاء من أول محرم؟
سأل أحد المؤمنين : ما هو الدليل على إقامة العزاء من أول محرم؟ ولماذا لا نكتفي بقراءة الكتب عن السيرة الحسينية؟
والجواب:
تقديم لا بدّ منه:
الآداب والسنن التي يندب إليها الشارع المقدّس، بل وكذلك الأحكام والفرائض، تأتي على صورتين:
الآداب والسنن التي يندب إليها الشارع المقدّس، بل وكذلك الأحكام والفرائض، تأتي على صورتين:
الأولى: أنْ يكون التشريع مستوعباً لها ولتفصيلاتها وكيفيّة امتثالها، وطريقة القيام بها. وذلك من قبيل الصلاة المفروضة والمندوبة؛ ففي الوقت الذي يأمرنا الشارع المقدس بالصلاة أو يندب إليها، يبيّن لنا عدد ركعاتها، وكيفيّة أدائها، والأقوال والأفعال والشرائط والموانع التي تتركّب منها، من دون أنْ يترك المجال للعبيد للتنوّع في ذلك.
الثانية: أنْ يشرّع الأمر بها فرضاً أو ندباً، من دون الخوض في تفصيلاتها وطريقة الإتيان بها. وذلك من قبيل صلة الرحم مثلاً؛ فإنّه بعنوانه العام مطلوبٌ للمولى، ويترك كيفية تحقيق ذلك العنوان للمكلّفين. وكلّ ما كان من هذا القبيل يكون تطبيقه بيد المكلّف، لكنّه يكون محكوماً بعدم التصادم مع حدود الشريعة. فليس للمكلّف أنْ يصل رحمه مثلاً من خلال استضافته في وليمة تشتمل على الخمر ولحم الخنزير.
وإقامة العزاء على المولى أبي عبد الله عليه السلام وأهل بيته وصحبه من قبيل الصورة الثانية التي ندبنا الشارع إليها وحثّنا عليها، ورتّب عليها الثواب الجزيل، والمنزلة الرفيعة، من دون أنْ يتدخل في كثيرٍ من تفاصيلها. والأدلة على مشروعية ذلك في غاية الكثرة، أشير سريعاً إلى بعضها:
- الأخبار الآمرة بإحياء أمر أهل البيت عليهم السلام.
- روى جعفر بن محمد بن قولويه في (المزار) بإسناده إلى عبد الله بن حماد، عن أبي عبد الله عليه السلام وذكر حديثاً طويلاً في ثواب زيارة الحسين عليه السلام، إلى أن قال: "بلغني أنّ قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً غيرهم ونساء يندبنه وذلك في النصف من شعبان فمن بين قارئ يقرأ وقاصٍّ يقص، ونادبٍ يندب، وقائل يقول المراثي. فقلت: له: نعم قد شهدت بعض ما تصفه، فقال: الحمد لله الذي جعل في الناس من يَفِدُ إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدونا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم يهددونهم ويقبحون ما يصنعون".
- محمد بن علي بن الحسين في (عيون الأخبار) عن أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "من قال فينا بيت شعر بنى الله تعالى له بيتا في الجنة".
- محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي في (كتاب الرجال) عن حمدويه بن نصير، عن محمد بن عيسى، عن حنان، عن عبيد بن زرارة، عن أبيه قال: "دخل الكميت بن زيد على أبي جعفر عليه السلام وأنا عنده فأنشده: من لقلب متيم مستهام، فلما فرغ منها قال للكميت: لا تزال مؤيدا بروح القدس ما دمت تقول فينا".
- أخبار الحثّ على البكاء على مصاب أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وهي كثيرة.
- التأسي بالنبيّ صلّى الله عليه وآله، حيث روى العامة في صحاحهم ما يدلّ على إقامة العزاء على السبط الشهيد من قِبَل جده صلوات الله عليهما قَبْلَ شهادته.
وأمّا الابتداء بالعزاء من أوّل محرّم، فهو أمرٌ اعتاد عليه شيعة أهل البيت عليهم السلام قديماً، ولا يبعد أنْ تكون هذه السيرة مأخوذة عنهم، أو ممضية منهم صلوات الله عليهم، وربما يستأنس لذلك بما رُوِي عن الإمام الرضا عليه السلام : "كان أبي عليه السلام إذا دخل شهر محرَّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه". وعلى كلّ تقدير ما دام هذا العمل من قبيل الصورة الثانية فلا ضير في توافق الناس على سيرة معيّنة في تطبيق هذه الشعيرة في هذا الوقت المعيّن، مع مناسبتها لأحداث شهادته، وعدم منافاتها لحدٍّ من حدود الشريعة.
ثم إنّ قراءة الكتب عن السيرة الحسينية وإنْ كان فيها شيءٌ من إحياء أمرهم عليهم السلام، إلا أنّه عملٌ فرديّ يفقد ما في إقامة مراسم العزاء من حيويةٍ وتأثيرٍ في عموم الناس. كما أنّ إقامة مجالس العزاء بالطريقة السائدة منذ القديم تتضمّن التعرّف على السيرة وزيادة، بما تشتمل من وعظٍ، وإرشادٍ، وتجييشٍ للعواطف، وأخذٍ للعبر، ومرور على السيرة، و... ، فهي مدرسةٌ سيّارةٌ عامّة، لا ينبغي للمؤمنين - أعزّهم المولى - أنْ تمرّ عليهم هذه الذكرى من دون الاستفادة منها على أكمل وجه.
تعليقات
إرسال تعليق