مساءلة ومحاسبة الإمام المعصوم!!
زعم بعضهم ممن ينتمي للوسط الشيعي، أنه يحق لنا مساءلة ومحاسبة الإمام في دولته!! المساءلة مصطلحٌ فاشٍ في الدول الديمقراطية، ويحمل نَفَسًا تشكيكيًّا، فعندما يُسأل مسؤول في الدولة: من أين لك هذا؟ فدافع ذلك هو الشك في وجود خطأٍ من قبل هذا المسؤول، أو شك في نزاهته وأنه ربما قام باستغلال منصبه، وأنه لم يكن نزيهًا في تطبيق القانون. ولهذا تُوضَع معايير معينة، لتمكين النواب من مساءلة المسؤولين، فيُطلَب من المسؤول بداية تَسَلُّمِه منصبَه في الحكومة إبراز ذمَّته المالية، وكذلك ثروات بعض أقربائه، وبعد سنوات، عندما يكتشف أنه قد أثرى بشكل مريب، يتم مُساءلته عن ذلك.
بالتالي لا يمكن الادِّعاء بأنّ مساءلة ومحاسبة الإمام المعصوم حقٌ لنا؛ لأن ذلك يحمل شكًّا في نزاهة الإمام وأنه إما يُخطئ بلا قصدٍ أو يتعمَّد الخطأ، وكلا الاحتمالين ممنوع في عقيدتنا نحن كشيعة؛ لأن ذلك يعني عدم عصمتهم (عليهم السلام)، نعم، يمكن أن نقول أن الإمام يضع ضوابطَ لمساءلة المسؤولين في الدولة.
واستدل أحد المدافعين عن هذه الدعوى برواية في نهج البلاغة عن الإمام علي (ع) أثناء فترة حكمه، والمُلاحَظ أن كل من زعم وروّج لحق الناس في محاسبة ونقد المعصوم استعان بهذا النص. وهو النص الذي أطرى فيه أحدهم الإمام بقوله: "أنت أميرنا ونحن رعيتك".. حتى قال: "فاختر علينا وأمضِ اختيارك وائتمر فأمضِ ائتمارك"، فكان من ضمن رد الإمام الذي ما زال البعض يستدلُّ به على القول بنقد المعصوم ومساءلته: ".. فلا تكلموني بما تُكلَّم به الجبابرة ولا تتحفّظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً لحقٍّ قيل لي ولا التماس إعظام نفسي لما لا يصلح لي فإنه من استثقل الحق أن يُقال له أو العدل أن يُعرَض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عني مقالة بحق أو مشورةً بعدل؛ فإني لست في نفسي بفوق ما أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي اللَّه من نفسي ما هو أملك به مني؛ فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره.."(1).
والنص لا يُستفاد منه ما يدَّعيه المُدَّعون، ولكن لنَتَنَزَّل معهم ونفترض أن الإمام يأمر بنقده ومساءلته، بل النص قد يفيد احتمال أن الإمام يخطئ، ولهذا فإن ذلك كله ليس حجة على الشيعي الذي يرى فيه معصومًا لا يخطئ، وذلك:
أولاً: الروايات التي تثبت أن الإمام فوق المساءلة والنقد لكونه معصومًا أكثر من أن تُحصى، كقوله عليه السلام: "نحن أهل بيتٍ لا يقاس بنا أحد"(2)، وقوله: "ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير"(3)، والكثير جدًّا من تلك الروايات التي فاقت حد التواتر ودلالات الكثير من تلك الروايات نصٌ في المعنى؛ حيث تؤكد بضرس قاطع وجوب طاعتهم بلا مناقشة ولا تشكيك وأنهم فوق ذلك بكثير، ولهذا لا بُدَّ من توجيه مثل هذه الرواية.
ثانيًا: لو كان فعلاً يحق للأمة محاسبة ومساءلة الإمام، لكان ذلك معروفًا من سيرة النبي (ص)، بينما سيرته تأبى ذلك قطعًا، والشواهد كثيرةٌ جدًّا، منها عندما قسَّم غنائم حنين، وشعور الأنصار بالغبن لأنه لم يعطِهم منها، وقد قام رجل من بني أمية فقال له: "اعدل يا رسول الله!"، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "خبت إذًا وخسرت، إن لم أعدل أنا فمن يعدل، ويحك ؟"(4)
والتفسير المناسب لمثل هذه الرواية، أن ظرف الإمام علي (ع) مختلف، حيث تم اختياره ومبايعته خليفةً مثله مثل الخليفة عمر بن الخطاب، لا يفرق عند المسلمين في ذلك. ولم تتم مبايعته على أساس أنه معيَّنٌ من الله ومعصومٌ عن الخطأ كما هي عقيدة الشيعة وحديث الثقلين وغير ذلك من النصوص التي تثبت عصمته، فقد قال: "إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه"(5).
ولهذا فهو تعامل على هذا الأساس، على أساس أنه خليفة للمسلمين، وليس إمامًا منصوصًا عليه من قبل الله كما يعتقد الشيعة، فأراد في ظل غياب فكرة العصمة أن يؤسِّس طريقةً للأمة تمنع من الاستبداد؛ فعلّم الناس مساءلة الحاكم وحفَّزهم على نقد السلطان، وعرض عليهم منذ البداية ذمته المالية، فقد كان يقول: " يا أهل الكوفة، إِذا أنا خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن"(6).
ومن الدلائل على أنه تعمد تعويد الناس على مساءلة السلطان، أن معاوية قال لسودة بن عمارة عندما ذهبت له تشتكي بسر بن أرطأة: "لقد لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان فبطيئًا ما تفطمون"(7).
وإلا فكل المعصومين ابتداءً من النبي (صلى الله عليه وآله) حتى آخر معصوم يؤكدون عصمتهم ووجوب الانقياد التام لهم ويرفضون الرد عليهم، وموقف النبي (ص) مع مَن اعترض على طريقة توزيعه للغنائم في حنين تؤكد ذلك(8)، وكذلك فإن بعض من تواطؤوا على مخاطبة الإمام الحسن (ع) بـ"يامذل المؤمنين"؛ ذكرهم الإمام بوجوب طاعتهم له وأنه إمامهم(9).
-------------------------
(1) الكافي 8: 355.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 66.
(3) نهج البلاغة: 48.
(4) مسند أبي يعلى الموصلي 2: 298.
(5) نهج البلاغة: 366.
(6) الغارات 1: 68.
(7) بلاغات النساء: 49.
(8) مسند أبي يعلى الموصلي 2: 298.
(9) تحف العقول: 308.
-------------------------
(1) الكافي 8: 355.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 66.
(3) نهج البلاغة: 48.
(4) مسند أبي يعلى الموصلي 2: 298.
(5) نهج البلاغة: 366.
(6) الغارات 1: 68.
(7) بلاغات النساء: 49.
(8) مسند أبي يعلى الموصلي 2: 298.
(9) تحف العقول: 308.
تعليقات
إرسال تعليق