معيارية مأساة الزهراء عليها السلام
لا يمكن أن تمر ذكرى شهادة السيدة الزهراء عليها السلام دون أن يقف الناظر على زاوية ليتأمل أمرًا لا يمكن تجاوزه. لا يظهر فكر منحرف أو بيئة منحرفة أو شخصية منحرفة فكريًا وعقائديًا إلا وتتميز بأمرين لا يمكن الخلو منهما. الأول هو "الحركية" طمعًا بالسلطة، والثاني هو "نصب العداء لقضية الزهراء عليها السلام"، وعلى الرغم من البون الشاسع بينهما لمن يقرأ للوهلة الأولى، إلا أن الواقع هو أنهما مرتبطان ارتباطًا وثيقًا.
إن مفهوم الحركية كله يتمحور حول القيام والثورة من أجل قيام السلطة والحكومة، لذلك ترى تاريخ الأئمة عليهم السلام في أدبياتهم مغيّبًا ولا ترى سوى الإمام الحسين عليه السلام وزيد الشهيد، وصُوِّرا على أنهما قائمان من أجل السلطة وأن الإصلاح هو إصلاح سياسي، وأن الدين جذر لشجرة لا يجب أن تثمر إلا حكومة، والإسلام هو ثورية مستمرة وحركة الجماهير هي الشرعية وكل ما يدعو إلى ما يخالف ذلك فقد استلب وعيه، وضل سعيه، وأخطأ تكليفه. لا يرون الأئمة إلا بصورة مجتزئة، مفتتة، وموضوعة بسياق واحد وهو سياق مقارعة الحاكم وطلب الرئاسة والحاكمية السياسية ولو أدى ذلك إلى الموت والشهادة! وهذه القراءة التجزيئية هدفها الوحيد هو تثوير الناس والجماهير واقناعهم بأن تكليفهم هو تحقيق حلم الأنبياء -وعبّر عن ذلك بصريح العبارة "أبو الحسن الندوي" وعنه أخذ الحركيون من المذهبين هذا الشعار-.
ولكن التجارب التي خاضها هؤلاء أثبتت فشلها على المستوى الاجتماعي، وضيق ثوبها على المستوى السياسي، وضعفها على المستوى العقائدي، وعجزها عن حل الأزمات الحقوقية فيها، فتحولت مهمتها إلى مهمات دعائية بحتة، وشعارات مجردة مبنية على مغالطات واهية. وتنازلت عن ثوابتها التي ثَوّرت الناس من أجلها لأجل أن تبقى في السلطة فجلعتها ثوبًا تزيد فيه تارة وتنقص منه تارة أخرى، وتارة تسوقها بذاك الاتجاه وأخرى هناك، لتتحقق نبوءة جورج اورويل حين قال: "إن السلطة والقوة ليستا وسيلة، بل هما الغاية. إننا لا نقيم ديكتاتورية من أجل حماية الثورة، بل نقوم بالثورة من أجل إقامة الديكتاتورية. فإذا أردت أن تتصور المستقبل فلتحاول أن تتخيل صورة حذاء ثقيل يدوس على وجه إنسان للأبد"!.
موقف السيدة الزهراء عليها السلام في مقابل السلطة، لم يكن موقفًا سياسيًا يبحث عن التشارك إن عجز عن الاستبداد، ولم يكن موقفًا مصلحيًا يريد أن يثبت نفسه كعنصر حاكم أمام منافسيه، ولم يكن موقفًا يريد شرعنة مصالحه تبعًا لـ"فقه الواقع". بل كان موقف السيدة الزهراء عليها السلام موقفًا إلهيًا، يرضا الله برضاها ويسخط بسخطها، وموقف مثل هذا بثباته، وعدم مرونته بذريعة الواقع والنوازل لا يخدم الحركيين الطامعين بالسلطة، فالسلطة إن لم تكن جزءًا من ضمن منظومة أكبر هي منظومة الهداية الإلهية، فهي هاوية تسقط فيها كل وليجة.
لذلك مثّل موقف الزهراء عليها السلام مأزقًا بالنسبة لهم، وأرسىٰ إشكالية لا يمكن تجاوزها سيما عند من يدعي "الممارسة الإسلامية" استنادًا على فقه المعصومين عليهم السلام.
هذه الاشكالية لم يمكنهم تجاوزها إلا من خلال تسقيط مأساة الزهراء عليها السلام لاضفاء الشرعية على ممارسات السلطات الحاكمة، ومن ثم تكون معذورة بحكم ولايتها وتكليفها بأن تمارس سلطاتها ولو - وهنا ركز على (لو) - بدت للعوام جائرة، والتقليل من مكانة السيدة الزهراء عليها السلام لاسقاط سلبها للشرعية من السلطة الغاصبة، فعند تسقيط مقامات الزهراء عليها السلام فإن الاستناد إلى فعلها وموقفها في اثبات موقف باتجاه السلطة لا يكون ذا مغزى طالما أنها لا تملك المكانة التشريعية لذلك!
إن باب الزهراء عليها السلام الذي فضح القوم الأوليين، ذاته الذي فضح القوم الآخرين، فإن كانوا الأوائل اتخذوا من عداء الزهراء عليها السلام مذهبًا لكونها مثلت المنفذ لتهديم كل أسسهم، فإن الآخرين اتخذوا من تسقيط مقاماتها وتهوين شأن مأساتها منهجًا وسلوكًا لكون التمسك بهذين الأصلين (مقاماتها ومأساتها) يهدم كل سعيهم الدنيوي نحو السلطة والتشبث بأي ذريعة للوصول إلى الحكومة.
إن المائع ضده الصلب، والمراوغ ضده صاحب الموقف، وكانت الزهراء عليها السلام "صلبة بمواقفها" فسلبت شرعية القوم الغاصبين والتي لم يستطيعوا إلى اليوم تجاوز الغصة التي بذرتها فيهم، فإنها كذلك كشفت انحراف المستأكلين باسم أهل البيت عليهم السلام حين جعلت من "الإمامة الإلهية" المحور للسلطة، لا المدعي لمقامها «.. فَدُونَكُمُوها فَاحْتَقِبُوها دَبِرَةَ الظَّهْرِ، نَقِبَةَ الْخُفِّ، باقِيَةَ الْعارِ، مَوْسُومَةً بِغَضَبِ اللهِ وَشَنارِ الْأَبَدِ، مَوْصُولَةً بِنارِ اللهِ الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ. فَبعَيْنِ اللهِ ما تَفْعَلُونَ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}، وَأَنَا ابْنَةُ نَذِيرٍ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَديدٍ، {فَاعْمَلُوا إنّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ} ..».
تعليقات
إرسال تعليق