هل الحوزة جامدةٌ راكدة؟


نسمع هذه الأيام من بعض رجال الدين وبعض المثقفين اتهاماً للحوزة عموماً منذ نشأتها إلى اليوم بأنها متحجرة ولا تقبل التغيير والتطوير وأنها ترفض الآراء المستجدّة وتفضّل التمسّك بالآراء القديمة. ما مدى صحة هذا الكلام؟

💢 والجواب:

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
🔹 يكفي يا أخي العزيز للباحث الجادّ والقارئ المنصف أن يمرّ مروراً سريعاً على الآراء العلمية لأبرز العلماء والفقهاء في الغيبة الكبرى من أولّها إلى آخرها سواء في مجال الفقه أو الأصول أو التفسير أو الكلام أو مختلف العلوم العقلية والنقلية، ليرى التغيّر والاختلاف الذي مرّت به آراؤهم ورؤاهم، وسيجد أن هذا التغيّر والاختلاف مستمرٌّ دائماً ولم ينقطع بحال، وهو مقتضى عدم غلق باب الإجتهاد في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، خلافاً للمدارس الأخرى.

🔸 ثمّ إن لازم دعوى المستشكل أن الآراء الفقهية والكلامية والتفسيرية اليوم والتي توصّل إليها علماؤنا المعاصرين هي نفسها التي كان عليها الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والشيخ الطوسي والسيد المرتضى وغيرهم من تلك الحقبة الزمنية، وهذا الزعم لا يأتي على لسان جويهل تصفّح كتابا دينيّاً؛ لبداهة الإختلاف الحاصل بين المتقدّمين والمتأخّرين من العلماء في كثير من الآراء.

🔹 بل لو أتعب هذا المستشكل نفسه قليلاً لوجد أن علماء الحقبة الزمنية الواحدة قد اختلفوا فيما بينهم في مسائل علمية كثيرة، كما هو الحاصل بين الشيخ المفيد وأستاذه الشيخ الصدوق، أو بين الشيخ الصدوق وأستاذه ابن الوليد، وكما هو الحاصل بين الشيخ الطوسي والسيد المرتضى والشيخ المفيد، وكذلك بين العلامة الحلّي  والخواجة نصير الدين الطوسي، وكذلك الأمر بالنسبة للمحقق الكركي والشيخ إبراهيم القطيفي رضوان الله ورحمته عليهم أجمعين، فليقرأ هذا المستشكل تلك الكتب والمراسلات والمكاتبات التي كانت تجري بينهم؛ ليرى أن الاختلاف بينهم كان طبيعياً؛ لأنه اختلاف قائم على الدليل العلمي.

🔸 وكذا الحال تماماً بالنسبة لعلمائنا المعاصرين، من الشيخ النائيني إلى المحقق العراقي إلى الشيخ محمد حسين الإصفهاني إلى السيد الخوئي والشهيد محمد باقر الصدر إلى فقهائنا الأحياء بأجمعهم، فإنك بقراءة ما خلّفه هؤلاء من إرث علمي سوف تجد بما لا يدع مجالاً للشكّ والارتياب أن الاختلاف العلمي بينهم قائم على قدم وساق، واختلافهم في المباني الفقهية والأصولية والرجالية والكلامية والتفسيرية والفلسفية أمر مشهود لكلّ مطّلِع، وتظهر نتيجة ذلك الإختلاف على فتاواهم وآرائهم وأنظارهم وأفكارهم.

🔻 نعم، إن الحوزة المباركة ترفض التغيير الذي لا يستند إلى دليلٍ علميّ يمكن الإعتماد عليه والركون إليه، لأنّها ببساطة لا ترى للتغيير بحدّ ذاته موضوعية، وليس هو بحدّ نفسه هدفاً تسعى لأجله، ما لم يكن التغيير إلى الأفضل والأحسن، والطريق الكاشف عن الأفضليّة والأحسنيّة هو الدليل والدليل فقط. وهذا السلوك منها سلوك عقلائي تؤيدّه كل الحواضر العلميّة، ويباركه كلّ ذي لبّ.

🔺 فلو أقام الشيخ المفيد دليلاً على عصمة أهل البيت عليهم السلام، أو أقام السيد المرتضى دليلاً على أحقّية أمير المؤمنين بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، أو أقام الشيخ الصدوق دليلاً على وحدانية الله عزّ وجلّ، فهل نرفض هذه الآراء بداعي أنها قديمة وأن التمسك بها ضربٌ من التخلّف والرّجعية؟! أم أنّ الحقّ أحقّ أن يُتّبع، سواءٌ كان الرأي قديماً أو جديدا.

وبناءً على ذلك، فلو تمسّكت الحوزة بآراء قديمة لعلماء ماضين، فليس ذلك إلّا لأنها وجدت الحق في تلك الآراء، أو أنه لم يَقُم دليلٌ علميّ ليدحض تلك الآراء، لا لأنّها آراء قديمة. 

♦️ولا يخفى يا أخي أن من يثير مثل هذه الشبهة إمّا جاهلٌ متسرّع، - وإن تسمّى مثقّفاً أو رجل دين، لأن الأمر واضح كما بيّنّاه سابقاً، - وإما  مغرضٌ وصاحب مشروع، ومثل هذه الشبهة إن صدرت من المغرض فهي تنطوي على أمرين: 

1️⃣ أحدهما: أنّ الحوزة وعلماءها فاشلون في قراءة الدين وفهم تعاليمه وأهدافه قراءةً وفهماً يواكبان العصر وينسجمان مع التطوّر والتقدّم الحاصل.

2️⃣ وثانيهما: أن صاحب هذه الدعوى يدعو الناس إلى نفسه، على أنه المخلّص من ظلمات التخلّف والتحجّر، وأنه هو من يملك نور العلم والفهم وأنه يمتلك "كاريزما" لا يملكها أحد من الأوّلين والآخرين. 

🔴 وبناءً على ذلك، تعرف أن صاحب هذه الشبهة يدعو النّاس للتفلّت من العلماء وعدم الإصغاء للحوزات العلميّة وعدم التمسّك بالمرجعية الدينية من جهة، ويدعو النّاس لقصر أنظارهم عليه، باعتباره واحد زمانه وفارد دهره من جهة أخرى.

📌 وبالنتيجة فيمكننا أن نلملم أطراف البحث بقولنا:
إن الحوزات الدينية لم تزل تشهد حركةً علميةً دائبةً دون توقف أو جمود أو ركود منذ نشأتها إلى يومنا هذا، لكنّها ترفض التغيير الذي يقوم على الطعن بالمسلّمات والضروريات والبديهيات العقليّة أو الدينيّة؛ لأنّه بالنتيجة يؤدّي الى انسلاخ الدِّين عن الدين، وفصل المذهب عن هويّته وذاته، وتجلببه بغير جلبابه، الأمر الذي حارب ودافع ونافح أهل البيت عليهم السلام من أجله، وفنوا أعمارهم الشريفة للمحافظة عليه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

هل ورد أن "أبا صالح" كنيةٌ للمهدي عج؟