إثارة حول «فتح باب الاجتهاد»
كثيراً ما يُقال: إنّ فقهاءَ الشيعة متفقون على فتح باب الاجتهاد، ولكنّك إذا خالفتهم في النتائج سرعان ما يقفون ضدك، وربما أصدروا الفتاوى بحقّ الآخر بالضلال والانحراف. وهذا الإشكال ناتجٌ عن سوء فهم عملية الاجتهاد، ويمكننا أن نشير إلى نقطتين في هذا المقام ليتبيّن وهن هذه المقولة:
- النقطة الأولى: أن عملية الاجتهاد وإن كانت متاحةً لمن يمتلك مؤهلاتها، إلا أن لها مضماراً محكوماً بقوانينَ لا يمكن للمجتهد أن يتجاوزها، بحيث لو تجاوزها كان منحرفاً عن جادة الصواب، وهذا النوع من التقنين نظامٌ عقلائيٌّ، فمثلاً: لو أن حاكماً خوّلَ جهةً معينةً في قرية أن تعد الطعام للناس، وأن «يجتهدوا» في صناعة الأطعمة المفيدة، فبلا شك أن هذه الجهة وإن كانت قد فتح لها باب الاجتهاد في صناعة الطعام، إلا أنّها مقيدة ب«أصول الطهي» دون أن تخلَّ بالغرض المقصود، لا أنها مخولة لفعل كل شيء يظهر معه تجاوز قوانين الطهي بما لا ينسجم مع ثوابت تلك العمليّة، وهكذا هو الحال في الاجتهاد، فعندما يُفتح باب الاجتهاد للمجتهد، فهو مُلزَمٌ بأن يجتهد بشكل لا يتنافى مع أصول تلك العملية وأدواتها، فمثلاً لو زعمَ شخصٌ عدم صحة حديثٍ في النص على الأئمة عليهم السلام أو قال بعدم وجود دليل على وجود الإمام الثاني عشر بذريعة الاجتهاد، لكان متجاوزاً على كل الأدوات العلمية مهما اختلفت المباني والآراء بين آلاف الفقهاء، وهذا هو الفرق بين الاجتهاد الحقيقي والاجتهاد المزعوم، فالحقيقي مهما انفرد بمبانٍ معينة لا يمكنه أن يخرج بنتائج عبثية تستهين بروح الاجتهاد وحقيقته، والمزعوم هو الذي يطلق الادعاءات التي تنقضها أدوات الاجتهاد الذي يتستر خلفه، فليس كل اجتهاد هو اجتهاد حقيقي، بل قد يكون ضلالاً تقمّصَ ثوب الاجتهاد.
وخير مثال على هذا التفريق، تعامل الأئمة عليهم السلام مع الشيعة، حيث كانت تصلهم بعض الأقوال عن أصحابهم فيخطّؤونها ويكتفون بالتخطئة، وتارة نجد الأئمة عليهم السلام يلعنون فئات أخرى قد بلغت مبلغ الضلال، ولو كانوا في زماننا لربما قُبلت آراؤهم على سبيل الانفتاح والتعددية و«باب الاجتهاد»..
- النقطة الثانية: أن عملية الاجتهاد تجري في المسائل الاجتهادية، ولا تجري في الثوابت القطعيّة والمطمأن بكونها من أصول الشارع وضرورياته. فإن زعم أحدهم عدم ثبوت حجيّة كلام الإمام في الفقه والعقائد، لم يَجُزْ الرضى بقوله تحت ذريعة الاجتهاد.
ولا يمكن أن يُفهم هذا على أنه اجتهاد مقبول؛ لأنه استعمال للاجتهاد في غير موضعه المجعول له، ولذلك نرى هذا الاختلاف في الفتوى بين المجتهدين، ولا نراهم يضللون بعضهم؛ لأنهم يعرفون أنّ هذه الأمور نظريّة واجتهادية، وقد قَبِلَ الشارعُ قول المجتهدين في زمن الغيبة وأمضاه لتعبُّد الشيعة به.
وإنما النزاع يكون مع من يخدش الأصول والثوابت المقطوع بصحتها ولا يصح الاجتهاد فيها، فليست عصمة الإمام أو النص عليه كحكم نزح البئر!
تعليقات
إرسال تعليق