الحُسن عند الحَسن


يضجّ العالم كل يوم مع خبر جديد عن تبرع مليوني أو ملياري لجمعيات ومنظمات خيرية في الغرب من قبل الأثرياء الغربيين، وما تلبث الصحف ومواقع الانترنت بعدها أن تبدأ في حفلة من التصفيق والتطبيل لهذا الكرم السخي وتجعله قدوة وأسوة يجب على الجميع اتباعها، ومن ثم تبدأ المقارنات ما بين الغرب الكافر والشرق المؤمن والإسلام الذي حضر بلا مسلمين هناك!
ومع هذا الانفجار المعلوماتي المذهل، إلا أن أمواج الاعلام تجرف في طريقها الناس وتجعلهم يدورون في مدارها دون وعي أو قدرة على التفكير. ومن يقود هذا الإعلام يتعمّد اخفاء حقيقة أنّ هؤلاء لا يتبرعون بهذه الثروات الضخمة لأجل سواد عين الفقراء، أو حبًا بالناس والإنسانية، إنما هي تجارة من نوع آخر. فالتاجر يداري رأس ماله ويحافظ عليه ويسعى لابقائه، وهذه الأعمال الخيرية تدخل من ضمن أموال التسويق والمرابحة عندهم.

فالتاجر يستميل قلب التاجر الآخر بالتبرع لمؤسسة مالية خيرية باسمه، وآخر يتهرب من دفع ضرائب ضخمة بتحويل جزء من أمواله إلى مؤسسة خيرية مملوكة له، والثالث يعتبرها دعاية لمؤسساته وشركاته يدفعها لمؤسسات خيرية مقربة منه تتولى تسويق اسمه وخلق سمعة حسنة له للتغطية على علاقاته السياسية أو انتفاعاته مع طبقات السياسيين.

هكذا تجري الأمور، ويظل الإعلام يستغبي الناس وهو يقودهم لتعظيم من كونوا ثرواتهم بالخداع والاحتكار والمنافسة غير الشريفة أو من طرق الفسق والفجور وصناعة الموبقات، بينما هذا الإعلام نفسه لا يأتي على ذكر أن الإمام المجتبى عليه السلام خرج من ماله مرتين وقاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات حتى أن كان ليعطي نعلاً و يمسك نعلاً ويعطي خفًا و يمسك خفًا. وفي مناقب ابن شهر آشوب جاءه بعض الأعراب فقال أعطوه ما في الخزانة فوجد فيها عشرون ألف درهم فدفعها إليه فقال الأعرابي: يا مولاي ألا تركتني أبوح بحاجتي و أنشر مدحتي. فأنشأ الحسن عليه السلام يقول: نحن أناسُ نوالُنا خضل.
‎هذه المكارم ليست وليدة الحسابات السياسية ولا هي أموال مدفوعة اليوم لتُسترَدّ غدًا، بهيئة مال أو دعاية أو نفوذ. وهي أموال يدفعها المسلم للمسلمين قربىٰ لله سبحانه، وأسوة يسنها المعصوم للتعامل مع المال الذي هو مال الله أوكلنا إيّاه، ومع هذا فلا ترى لها ذكرًا ولا أثرًا لأنها تهدم الصورة التي يروجها الإعلام لتسويد صورة الإسلام في نفوس اتباعه حتى تخال أراضيهم خلت من الإيمان بالله وتشويه رموزه البرّاقة الذين جعلوهم مجرد تراث تاريخي، ولا تخدم طبيعة التسويق الذي تقوم به للقيم الغربية الرأسمالية والليبرالية المتوحشة التي جعلتها أقرب لدين الله وهي التي لا ترى قداسة ولا مكانة له سبحانه. ولا هي تساعدهم في الإساءة لرموز مذهب يعتبره أولئك خطرًا عليهم بقيمه ورموزه ومبادئه ومناهجه.
إنك لا ترى الفقراء على أبواب قصور الأغنياء بعزة، ولا ترى المساكين على أعتاب شركات الأثرياء بكرامة، ولا ترى ثريًا يقف بجانب الفقير دون كاميرا تصوره وهو يعطف عليه، أو ممثلاً يجلس في مجلس المساكين دون إعلامٍ يسوّقه كراحمٍ لهم. وهذا ما يذكرني بما كتبه علي عزّت بيغوفيتش في رائعته "الإسلام والغرب": «.. لماذا تصادف كثرة من المعوقين حول المساجد والكنائس والمعابد التي نذهب إليها؟
لأن بيوت الله وحدها تفتح أبوابها لأولئك الذين ليس ما يعرضونه أو يبرهنون عليه. أولئك الفقراء في المال والصحة، أولئك الذين استبعدوا من موائد الاحتفالات في هذا العالَم، حيث يُدعىٰ الشخص لاسمه أو حسبه ونسبه أو موهبته أو علمه. إنّ المريض وغير المتعلم يُغلق أمامه بابُ المصنع أيضًا بينما يدخل المتعلم صحيح البدن. أمّا في بيت الله فإنّ الفقير والأعمىٰ يمكن أن يقفا جنبًا إلى جنب مع ملك أو نبيل وقد يكونا عند الله أفضل منهما. إنّ أهم معنى حضاري وإنساني لأماكن العبادة يكمن في هذا البرهان المتكرر للمساواة».
وهكذا الحال مع رجال الله، ولكن أين المتفكر والمتأمل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

هل ورد أن "أبا صالح" كنيةٌ للمهدي عج؟