لا تثبُت إمامة الأئمة عليهم السّلام بنصوصهم أنفسهم؟!!



حفلت المصادر الحديثيّة الشّيعيّة بالنصوص الكثيرة المنقولة عن أئمة أهل البيت الطّاهرين عليهم السّلام، المعرّفة بإمامتهم للمسلمين، وعظيم منزلتهم، وعالي مقاماتهم، وطهارتهم وعِظم رُتبتهم في الدّين الإلهي الحنيف. 
وقد دأب أتباعهم وخصوصاً أهل العلم والفقاهة والكلام منهم على الاستدلال بها وبغيرها من الأحاديث لإثبات إمامة الأئمة الطّاهرين؛ ومحاجّة النّاكرين لفضلهم وحقوقهم في الرّئاسة والإمامة والولاية بها وبغيرها. وهذا واضحٌ للمتتبّع للكتب الكلاميّة والعقائديّة.

وقد أشكل البعضُ في الآونة الأخيرة على هذا السّبيل؛ مُدّعياً عدمَ إمكان الاستدلال بنصوص أئمّة أهل البيت عليهم السّلام أنفسِهم لإثبات إمامتهم؛ عازياً ذلك لاستلزامه محذور الدَّور في المقام، والذي يعني توقّف الشيء على نفسه، رامياً بذلك لقطع كلّ محاولةٍ للاستدلال بنصوصهم عليهم السّلام والاحتجاج بها لبيان إمامتهم وولايتهم على النّاس. 

ولكن كلامَ المُشكل غير صحيح ولا تامّ؛ و ينحلُّ عن الإشكال بالبيان الآتي: إنّ لكلّ إمامٍ من أئمة أهل البيت عليهم السّلام جنبتان في شخصيّته المباركة:
الأولى: جنبَتُه بما هو إمام ؛ ويُنظَرُ له فيها على أنّه إمامٌ مُفترض الطّاعة من الله سبحانه وتعالى، وخليفةٌ للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وفي مثل هذه الجَنبة لا يُمكن الاستدلال بنصوصه على إثبات نفس إمامته (عليه السلام)؛ لما يكون من محذور الدّور الباطل في الاحتجاج، وفي هذه الحالة يصُحُّ إشكالُ المُشكل على هذا النّوع من الاحتجاج.

الثّانية: جنبَتُه بما هو إنسانٌ مُسلمٌ من أهل العلم والفضل، ومن ذوي الرّواية المقبولة عند عامّة أهل الحديث، وفي مثل هذه الحالة لا يصُح الإشكال أبداً على الاستدلال بروايته المُثبتة لإمامته وسائر مقاماته (عليه السّلام). 
إذ أنّ كثيراً من روايات الأئمّة عليهم السّلام هي رواياتٌ منقولةٌ عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وقد سمعها (عليه السّلام) منه (صلّى الله عليه وآله) إمّا بالمباشرة كما عند أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) وبعضِ مرويّات الإمامين الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وإمّا بالسَّماع والتحديث عن آباءه الطّاهرين؛ كما في حالة سائر الأئمة الطّاهرين (عليهم السلام) غير أمير المؤمنين علي (عليه السّلام). 
ومن الروايات الّتي نقلها أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) عن جدّهم النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) هي الرّوايات المبيّنةُ لمقامهم وإمامتهم وولايتهم على النّاس.
وفي مثل هذه الحالة -وهي رواية الإمام (عليه السّلام) روايةً عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله تُثبت إمامته وإمامة آباءه وأبناءه الطّاهرين - لا يُحتاجُ فيها إلى إثبات إمامته عليه السّلام بطريق غير نفس روايته ؛ لأنّه والحال هذه لا يوجد أيُّ إشكال دَورٍ في البَين ؛ لأنّ الشيء فيها لا يتوقّف على نفسه ؛ إذ أن إمامة الإمام عليه السّلام لن تكون ثابتةً بواسطة نفس كلامه عليه السّلام حتّى يُقال أن هناك دَوراً في الموضوع ؛ بل إمامته عليه السّلام ستكونُ ثابتةً بما نقَله عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله . 
وعلى ذلك ؛ لا تكون العلة في قبول رواية الإمام عليه السلام عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ما يُثبِتُ إمامته إلّا نقلاً لرواية سمعها بالطّريق الصحيح الّذي لو عُرض على المجنون لأفاق وهو طريق السّلسلة الذهبيّة الذي يكون نقلُه عليه السّلام فيه عن آباءه الطّاهرين . 
فلا يستلزمُ لقبول رواية الإمام عليه السّلام المُثبتة لإمامته والمنقولة عن النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله سوى إثباتُ ما يُشترطُ إثباتُه في قبول رواية الراوي ؛ من العدالة والوثاقة والضبط ؛ ولا أظنّ أحداً يمكنه نفيَ صفات قبول الرّاوي عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام ؛ فقد عرفهم علماء المسلمين جميعاً وفي كل القرون بالعلم والطهارة وعظيم المنزلة والفضل ؛ ولا حاجة لبيان كلماتهم في ذلك ؛ فيمكنك بأدنى مراجعة لسيرتهم عليهم السّلام في كتب علماء المسلمين مُشاهدةُ الإجلال والإعظام والإكبار لهم ولنفوسهم الطاهرة . 
ولو قال قائلٌ : هنالك أحاديثُ منقولةٌ عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام تُثبِت إمامتهم ولكن لم يرِد التِصريح فيها على أنها منقولة عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله ، فيُمكن أن تكون هذه الأحاديث هي من كلامهم هم عليهم السّلام وليس من كلام النّبي الأعظم صلى الله عليه وآله ، وحينئذٍ يعودُ علينا إشكال الدَّور في الاستدلال والاحتجاج بها ؟ 
قُلتُ : إن كثيراً من الأحاديث التي نقلها الأئمّة عليهم السّلام عن جدّهم المصطفى صلى الله عليه وآله المُثبتة لإمامتهم وولايتهم كافيةٌ في إثبات إمامتهم عليهم السّلام ؛ وإذا كان كذلك ؛ فهذا يعني ثبوت إمامتهم عليهم السّلام في رُتبة سابقة من خلال نقلهم لإمامتهم عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ، وحينها يكونُ الأخذُ بما رُوي عنهم عليهم السّلام  المُثبِتٍ لإمامتهم ، والغير مصرّح فيه روايتهم عليهم السّلام له عن النّبي الأعظم صلى الله عليه وآله أخذاً عن أشخاصٍ ثبتت إمامتهم من خلال ما رُوي عن النّبي صلى الله عليه وآله فيهم ، وعليه فيكون الأخذُ بكلامهم أخذاً بكلام إمامٍ مُفترض الطّاعة ثبتت في رُتبةٍ سابقةٍ برواياتٍ عن النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله إمامتُه وفرضُ ولايته وطاعته على النّاس.
كما أنّهم عليهم السّلام صرّحوا بأنّ ما ينقلونه من المعارف والعلوم إنما هو بسندهم المتّصل بآباءهم الطّاهرين إلى النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ؛ فلا يكونُ ما يُتوهّم من أنه من كلامهم كذلك ؛ بل يكون كلاماً منقولاً ومُسنداً عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وإن لم يكن ظاهرُ الرواية مُصرّحاً بذلك ؛ وهذا كمِثل الرّواة الذين يحذفون أسناد مروياتهم ؛ ولا يُصرّحون عمّن نقلوا نصّ روايتهم ؛ ولكنهم لا يقولونه من أنفسهم بل بما نقلوه عن مشايخهم وأستاذتهم ؛ فلا يُشكَلُ عليهم في ذلك إن عُرفَ أن السلسة الّتي نقلوا رواياتهم فيها هي سلسةٌ برجال ثقات ؛ فكيفَ إذا كانت السلسلة هي سلسلة الذّهب التي كلّ مَن فيها هو من سادة المؤمنين وقادتهم وهم الأئمّة الطّاهرون من أهل البيت عليهم السّلام.

وبهذا ينحلُّ إشكالُ هذا المُشكل ؛ ولا يكونُ الأخذُ والاستدلالُ بالروايات المنقولة عنهم استدلالاً باطلاً مُستلزماً لمحذور الدَّور ؛ بل هو استدلال صحيح برواياتٍ صحيحة عن النّبي الأعظم صلى الله عليه وآله نقلها عنه أبناؤه الطّاهرون عليهم السّلام ؛ أو تحدّثوا بها بما هُم أئمّة ثابتةٌ لهم الإمامة عليهم السّلام في رُتبةٍ سابقة بما روَوه عن جدّهم المصطفى صلى الله عليه وآله والّذي يعتقدُ بحجيّته وحجيّة أقواله صلّى الله عليه وآله صاحبُ الإشكال نفسُه .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

كلامٌ حول حديث «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»