الحسين ثأر الله
روي عن الصادق (عليه السلام) في كيفية زيارة
الحسين (عليه السلام): "ثم امشِ إليه حتى تأتيه من قِبَل وجهه، فاستقبل وجهك
بوجهه وتجعل القبلة بين كتفيك، ثم قل: السلام عليك يا حجة الله وابن حجته، السلام
عليك يا قتيل الله وابن قتيله، السلام عليك يا ثار الله وابن ثار"(1).
من الكلمات التي تستوقف قارئ الزيارات
المعصومية للإمام الحسين (عليه السلام) كلمة (ثار الله)، وهي تحمل مفهومًا
"يفتح علينا آفاقًا واسعةً للتفكير والتأمُّل، ويطرح علينا مسائل من صلب
الرسالة والعمل والحركة والجهاد، وهي مسائل بالغة الحساسية والأهمية مما تواجهها أمتنا اليوم؛ ولذلك فسوف
نتوقف قليلاً عند هذه الكلمة، لنتأمّل معطياتها وإيحاءاتها"(2).
أولاً: البحث للغوي
والتاريخي
كلمة (ثار الله) مخففة الهمزة؛ وذلك بتبديل
همزتها حرف مدٍّ من جنس حركة ما قبلها، فأصلها (ثأر الله)، قال المجلسي (رحمه
الله): "ثم اعلم إنا لم تجد(3) في كتب الزيارات والأدعية إلا غير مهموز"(4)، والثأر بالهمزة: الدم وطلبه، قال ابن فارس: "وهو
الذَّحْل المطلوب"(5).
ولهذه الكلمة جذور تاريخية عند العرب، فقد
كان الدم يستثير أولياء المقتول وذويه للقصاص والانتقام من القاتل؛ إذ لا بقاء
لقبيلةٍ تتخلّى عن الطلب بدماء مَن يقتل رجالها، مِمَّا يجعلها عُرضةً لطمع
القبائل فيها، فتجترئ على العدوان عليها وقتل رجالها.
ومَن كان صاحب ثأر كان يُحرِّم على نفسه شرب
الخمر والاتصال بالنساء وتناول اللحم، وقد ينذر ألاّ يمس الماء جسده حتى يأخذ
بثاره، ولا يغادر الثائر هذه الحالة المسماة بـ(الإحرام) إلا بعد إنفاذ نذره وأخذه
بالثار، فقد كانت لهذه الشرعة منزلة مقدسة في نفوس العرب قبل الإسلام.
ولكي لا يتهاون القوم في طلب الثأر مِمَّن
وتروهم، راجت في المجتمع القبلي القديم (أسطورة الهامّة)، والهامّة نوعٌ من أنواع
البوم وطائرٌ من طيور الليل، يألَف الأماكن المهجورة كالمقابر، وكانت العرب تزعم
أن روح القتيل الذي لا يُدرَك ثأره تصير هامّةً وتقف على قبره، وقيل: تخرج من
رأسه، ولا تزال تصيح: اسقوني اسقوني، أي من دم قاتلي، فلا تكفُّ عن الصياح حتى
يؤخذ بثأر القتيل، فإذا أدرك ثأره، طارت(6).
وتقع تبعة الطلب بدم القتيل عادةً على أقرب
الناس إليه رحمًا، فإن عجز عن ذلك كانت القبيلة كلها تلزم نفسها بإنفاذ هذا الأمر،
فأي رجلٍ من رجالها في وسعه أن يتولّى هذا الأمر، ولكن العرب في الجاهلية كانوا
يتجاوزون في الثأر الحدود المعقولة، حتى قتل (مهلهل) بأخيه (كليب) من بكر بن وائل
مقتلةً كبيرة، وكاد يفني بكر بن وائل(7).
ثانيًا: القصاص في
الإسلام وحق الولي في ذلك
والسر في هذا الاهتمام و التعميم في مسألة
الدم، أن القبيلة العربية كانت تعتبر الدم حقًا للجميع، وعلى الجميع أن يعملوا
لحماية دمائهم، وللثأر من القاتل أو القبيلة التي تؤوي القاتل وتمنحه الحماية،
فالدم للقبيلة وليس للفرد، والدفاع عن الدم يقع على القبيلة وليس مسألةً فرديةً(8).
وعلى أي حال، فقد جاء الإسلام وهذَّب هذه
الحالة في مسألة القصاص والقوَد، واعتبر هذا التصور لقضية الدم صحيحًا في بعض
جوانبه، فمثلاً يرى أن الدم قضيةٌ لا تخصّ المقتول فقط، بل تعمُّ الجميعَ، قال
الله (تعالى) في ذيل قصة ابنَي آدم (عليه السلام): ((من أجل ذلك كتبنا على بني
إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا))(9)، فقد ذهب بعض المفسّرين: أن معناه هو أن الناس كلهم
خصماؤه في قتل ذلك الإنسان، وقد وترهم وتر من قصد لقتلهم جميعًا، فأوصل إليه من
المكروه ما يشبه القتل الذي أوصله إلى المقتول(10)؛ فالعدوان على شخصٍ عدوانٌ على الجميع، أو كأنه عدوانٌ
على الجميع.
ثم إن الإسلام جعل حق القصاص والقوَد لولي
الميت دون غيره من سائر الناس، قال (تعالى): ((ومن قُتِل مظلومًا فقد جعلنا لوليه
سلطانًا))(11)، بل ذهب مشهور الفقهاء إلى لزوم الاستئذان من الإمام
(عليه السلام) حين إرادة الاستيفاء(12).
ولا يتعدى الولي في القصاص إلى غير القاتل،
وهذا واضحٌ من ذيل الآية السابقة: ((فلا يُسرف في القتل إنه كان منصورًا))، بل حتى
ولو تواطأ جماعةً على تخليص القاتل من يد أولياء المقتول، فإنه لا يحقّ للولي أن
يقتل مكان القاتل أحدًا من هذه الجماعة حتى ولو مات، وإنما يلزم حبس الجماعة حبسًا
حتى يُتَمكَّن من القاتل، وإذا ما مات القاتل، لزمت الدية على المخلِّص دون
القصاص، وهذا مفاد صحيح حريز، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: "سألته عن
رجلٍ قتل رجلاً عمدًا، فرُفِعَ إلى الوالي، فدفعه الوالي إلى أولياء المقتول
ليقتلوه، فوثب عليه قومٌ فخلصوا القاتل من أيدي الأولياء؟ قال: أرى أن يُحبَس
الذين خلّصوا القاتل من أيدي الأولياء حتى يأتوا بالقاتل، قيل: فإن مات القاتل وهم
في السجن؟ قال: إن مات فعليهم الدية يؤدونها جميعًا إلى أولياء المقتول"(13).
فهذا كله وغيره من الأحكام التي وردت في
أبواب القصاص كان هدف الإسلام منها أن يحفظ نظام المجتمع من الفوضى ويحقن دماء
البشرية بذلك، قالت السيدة الزهراء (عليها السلام): "والقصاص حقنًا
للدماء"(14)، أي: وجعل الله القصاص وشرَّعه من أجل المحافظة على
حياة الناس، وهذا نظير قوله (تعالى): ((ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب
لعلّكم تتّقون))(15).
كيف يكون الحسين (عليه
السلام) هو ثار الله؟
ذهب جمعٌ من العلماء إلى أنَّ معنى كلمة (ثار
الله) الموجودة في الزيارة "أنك أهل ثأر الله"(16) أي: أنت يا أبا عبدالله المؤهل لأنْ يكون الله هو
الطالب بثأرك.
ولكن مع هذا يبقى السؤال: كيف يتحقّق الثأر
لدم الحسين (عليه السلام)؟ أقول: أُجيبَ على هذا السؤال باحتمالَين:
الاحتمال الأول
أن الحسين (عليه السلام) هو الذي يطالب بدمه
ودماء أهل بيته بأمره (تعالى) في الرجعة، حيث وُجِدَت عندنا رواياتٌ كثيرة تؤكد
رجوع بعض الخلائق إلى دار الدنيا وأن أول من يرجع هو الحسين (عليه السلام)، فقد
روي عن أبي عبدالله (عليه السلام): "أول من تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا
الحسين بن علي (عليه السلام)، وإن الرجعة ليست بعامة، وهي خاصةٌ، لا يرجع إلا من
محض الإيمان محضًا أو محض الشرك محضا"(17)، وبعضها أكدت أن الحسين (عليه السلام) وهو (المنتصر أو
المنصور) الذي يخرجه الله فيطلب بدمه ودم أصحابه، فيقتل ويسبي(18)، وأنه (عليه السلام) يملك حتى يقع حاجباه على عيني من
كبر(19).
الاحتمال الثاني
أن الله يطلب بدم الحسين (عليه السلام) من
أعدائه؛ وذلك بنصر الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وتحقيق
مبادئه ((ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم
الوارثين))(20)، وهذا المعنى يجرّنا إلى فهم أنّ دم الحسين (عليه
السلام) ليس دمًا شخصيًا، والثأر فيه ليس في حدود القصاص والقوَد من الظالم
والقاتل، ومن هنا قال الشيخ الآصفي (رحمه الله): "وعندما تكون إراقة دم من
أجل قضية التوحيد والعبودية لله وتحكيم رسالة الله في الأرض، فإن الأمر يختلف؛
فالدم هنا أُريقَ في قضيةٍ رساليةٍ وليس في قضيةٍ شخصية، والأمر يتعلق بأسرة
التوحيد، ولا يتعلّق بالأسرة العائلية بمعناها الضيق"(21).
ولكي يتَّضح هذا الاحتمال مع الكلام المنقول
عن الشيخ علينا أن نذكر مجموعةً من النقاط، نضعها أمام النتيجة:
النقطة الأولى
ورد في الأثر رواياتٌ كثيرةٌ توجد علاقةً بين
الإمام المهدي وبين الإمام الحسين (عليهما السلام)، منها ما تجعل للقائم (عجَّل
الله تعالى فرجه الشريف) دورًا في المطالبة بدم الحسين (عليه السلام)، فقد أخرج
السيد هاشم (رحمه الله) في البرهان عن ابن قولويه ما نصُّه: "... عن رجلٍ،
قال: سألتُ أبا عبدالله (عليه السلام) عن قوله (تعالى): ((ومن قُتِل مظلومًا فقد
جعلنا لوليه سلطانًا فلا يُسرف في القتل إنه كان منصورًا))، قال: ذلك قائم آل محمد
عليه وعليهم السلام، يخرج فيقتل بدم الحسين (عليه السلام)، فلو قتل أهل الأرض لم
يكن مسرفًا، وقوله: ((فلا يسرف في القتل)) أي لم يكن ليصنعَ شيئًا يكون سرفًا، ثم
قال أبو عبدالله (عليه السلام): يقتل والله ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) بفعال
آبائها"(22).
النقطة الثانية
ينقسم الناس على أساس التوحيد والشرك إلى
أسرتَين: إحداهما أسرة (التوحيد) والأخرى: أسرة (الشرك)، وإذا كان ولي الأسرة في
المجتمع الأب أو الجد، فإن الولي في هاتين الأسرتين الله والطاغوت، وهنا آيةٌ من
سورة البقرة توضح لنا ذلك بصورةٍ لا غبار فيها ولا غموض ((الله ولي الذين آمنوا
يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى
الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون))(23)، ثم ما يجمع البشرية على اختلاف ألوانها وزمانها
ومكانها العقيدة والحب والبغض والرضا والسخط، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):
"إنما يجمع الناس الرضا والسخط، فمن رضي أمرًا، فقد دخل فيه، ومن سخطه فقد
خرج منه"(24).
النقطة الثالثة
ما وقع في يوم الطف من الصراع بين معسكر الحسين (عليه السلام)
ويزيد ليس صراعًا شخصيًا؛ وإنما الصراع صراعٌ حضاري، وانتقامٌ من الخط الحضاري
الذي يريد أن ينال من خط الرسالة، فالحسين (عليه السلام) كان يقاتل في سبيل الله
ولتثبيت كلمة الله على وجه الأرض، ولإسقاط الطاغوت وإحباط دوره وعمله في الأرض وفي
المجتمع، ولإزالة الفتنة التي تعيق الناسَ عن سبيل الله، ولهذا روي عن الإمام
(عليه السلام) أنه كتب في وصيته لمحمد
لما أراد الخروج من المدينة: "وإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا
ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلَّى الله عليه وآله)، أريد أن آمر
بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسيرة بسيرة جدي (صلَّى الله عليه وآله)وأبي علي بن أبي طالب (عليه السلام)"(25).
النتيجة:
إن دم الحسين يمثل التوحيد، وللعلم أن الدم
الذي يسفك في سبيل التوحيد دم لا يخص المقتول، وإنما يعمّ كل أفراد أسرة التوحيد،
كما أن العدو القاتل المتمثّل في يزيد وأعوانه يمثل أسرة الشرك أجمع، فالعدوان في
حقيقته هو عدوان أسرة الشرك على أسرة التوحيد، وإذا كان الأمر كذلك، فإن المطالبة
بهذا الدم لا تتوقف عند القاتل والمعتدي فقط من أسرة الشرك والجاهلية،،، وإنما تعم
كل أطراف العدوان من تلك الأسرة، ومن هنا
نفهم اللعن الوارد في الزيارة: "ولعن الله أمةً سمعت بذلك فرضيت به"(26).
إن كان في القصاص حقٌ لولي الأسرة الصغيرة في
استيفاء القصاص وأخذ القوَد، فإن لولي الأسرة التوحيدية الإبراهيمية الحق في
المطالبة بدم الشهيد الذي يسقط من أجل التوحيد، وبهذا فإن الله هو المطالب بحق هذه
الأسرة، قال (تعالى): (( إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا))(27).
إن النصر هنا لا يتمثّل في القتل فقط، وما
نراه من الانتقام والقتل الذي يقوم به المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه
الشريف) في دولته ما هو إلا وسيلةٌ لإنفاذ مشيئة الله وحاكميته بحيث تطهر الأرض من
كل دنس، وهذا تفسير قوله (عليه السلام): "يخرج فيقتل بدم الحسين (عليه
السلام) فلو قتل أهل الأرض لم يكن مسرفًا"، كذلك فإن قتل ذراري قتلة الحسين
ليس لأنهم أبناءٌ لهم وفقط، بل لأنهم ينتمون لأسرة الشرك والطاغوت الممانعة لإرادة
الله في الأرض، ولهذا جاء في رواية عبدالسلام بن صالح الهروي عن أبي الحسن الرضا
(عليه السلام)، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله، ما تول
في حديثٍ روي عن الصادق (عليه السلام) قال: "إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة
الحسين بفعال آبائها"؟ فقال (عليه السلام): هو كذلك. فقلتُ: قول الله (عزّ
وجل): ((ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى)) ما معناه؟ قال: صدق الله في جميع أقواله، ولكن
ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) يرضون بفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومن رضي شيئًا
كان كمن أتاه، ولو أنّ رجلاً قُتِل بالمشرق، فرضي بقتله رجلٌ بالمغرب، لكان الراضي
عند الله (عزّ وجل) شريك القاتل، وإنما يقتلهم القائم إذا خرج؛ لرضاهم بفعل
آبائهم... "(28).
وحين بذل الحسين (عليه السلام) دمه لم يكن
بذله لأمرٍ بسيطٍ، بل من أجل قضية التوحيد والعبودية لله وتحكيم رسالة الله في
الأرض، وإذا كان دم الحسين (عليه السلام) هذا هدفه، فإن في نصرة المهدي (عليه
السلام) وتغليبه والمنّ عليه وعلى المستضعفين نصرٌ لدم الحسين (عليه السلام)
وتغليبٌ لمبادئه وثاراته، ومن هنا كان شعار المنتظر الموعود (عليه السلام): يا
لثارات الحسين(29).
والحمدلله رب العالمين وصلَّى الله على محمدٍ
وآله الطاهرين.
تعليقات
إرسال تعليق