لماذا لم تُذكر ولاية علي وأبنائه في القرآن؟


الشبهة: أ لستم تقولون إنَّ "الولاية" من أصول الدين وأركانه؟ فلماذا لم تُذكر ولاية الإمام علي وأبنائه (عليهم السلام) في القرآن الكريم، بينما ذُكرت أركان الدين الأخرى من الصلاة والصوم والحج..؟ علماً أن القرآن الكريم (تبيان لكل شيء) ..! فإذا كان ولاية أهل البيت عليهم السلام من أصول الدين وأركانه، فلماذا لم تُذكر في القرآن الكريم؟!

الجواب -وبالله التوفيق- :
إنَّ القرآن الكريم بيَّن للناس أمرَ الولاية بأروع صورة في ثلاث صيغ -كل منها يكمِّل الآخر- :

(الصيغة الأولى): الولاية العامَّة للأنبياء والأئمة في القرآن الكريم، أي الدلالة على إمامة الأئمة والهداة منذ آدم (عليه السلام) وانتهاءً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي هذه الصيغة تم بيان صفات الأئمة من العلم والاصطفاء والاجتباء والصبر واليقين والعبادة.. مع بيان الدور الذي يضطلع به الأئمة والهُداة في الأمم كبيان آيات القرآن الكريم وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وتمثيل الأسوء الحسنة.

والآيات في هذه الصيغة كثيرة، نذكر منها قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة: 124 ، وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة: 24 ، وقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) آل عمران: 33 .. إلى غير ذلك من آيات الذكر الحكيم.

وفي هذه الصيغة من البيان تمَّ غرس عدة مفاهيم في وعي المؤمن البصير المتدبِّر للقرآن الكريم:

1 ـ أنَّ الأئمَّة والهداة الذين يتولون إمامة العباد بصورة شرعية، يتصفون بصفات عظيمة من القرب والكمال تؤهلهم للاصطفاء من قبل الله تعالى.

2 ـ أنَّ اختيار الأئمَّة والهُداة يكون بالنص من عند الله وليس بالشورى أو التسلط والغلبة.

(الصيغة الثانية): بيان أنَّ الاصطفاء والاجتباء والعلم وبقية الصفات ـ بنفس المستوى الذي تم بيانه في الصيغة الأولى ـ استمرت في هذه الأمَّة، ودعوة العباد ـ من هذه الأمَّة ـ إلى طاعة أولي الأمر بنفس التأكيد الذي تمت به دعوتهم إلى طاعة الله ورسوله.. فقال الله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) المائدة: 55 ـ 56 ، وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...) النساء: 59 ، وقال الله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) فاطر: 32 ، وقال الله تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) العنكبوت: 49 .

(الصيغة الثالثة): بيان الأسرة التي ينتمي إليها أصحابُ هذه المنزلة، أي منزلة الولاية المبنية على العلم والاصطفاء، حيث خاطبهم القرآن الكريم مُبيِّناً أنهم المُجتبون من ذُريَّة إبراهيم عليه السلام، والشهداء على الناس، فقال الله تعالى: (...هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ...﴾ الحج: 78 ، والاجتباء هو بمعنى الاصطفاء الذي تدل الصيغة الثانية أنَّ أصحابه هم ورثة علم القرآن الكريم. ثم بيَّن أنهم من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببيان طهارتهم: (...إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) الأحزاب: 33 ، إضافة إلى بيان أنَّ المطهَّرين هم الذين يعلمون القرآن الكريم في منزلة اللوح المحفوظ: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) الواقعة: 77 ـ 79 .

وكل واحدة من هذه الصيغ تندرج فيها آيات عديدة وبحوث تتطلب توسُّعاً وتدبُّراً..

ثم جاء دور السنة النبوية الشريفة حيث بيَّنت أسماء الأشخاص المتصفين بالاصطفاء والتطهير والولاية والهداية من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. كقول الإمام علي (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (إنما أنت مُنذِر ولكلِّ قوم هاد) [الرعد: 7] ، فقال (ع) : "رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنذر، والهاد رجل من بني هاشم". أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد مسند أحمد: 1/ 126، وقال الهيثمي في المجمع 7 : 41 : "رجال المسند ثقات". وفي تفسير الطبري 16 : 357 بسنده عن ابن عباس، قال: لما نزلت (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) ، وضع (صلى الله عليه وسلم) يده على صدره فقال: "أنا المنذر، ولكل قوم هاد"، وأومأ بيده إلى منكب عليّ، فقال: "أنت الهادي يا عليّ، بك يهتدي المهتدون بَعْدي". وحسَّنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري 8 : 285 ، ورواه المقدسي في الأحاديث المختارة 10 : 159 . وقال الحاكم في "المستدرك" 3 : 140 : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".


وهكذا بيَّنت السنة الشريفة والأحاديث المستفيظة أن المراد من الولي بعد رسول الله (ص) هو الإمام علي عليه السلام، وذلك في قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) المائدة: 55 . فمن ذلك ما صحَّ عن إمام العترة الطاهرة محمد بن علي الباقر (عليه السلام) أنه روى عن آبائه الطاهرين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الآية نزلت في ولاية الإمام علي (عليه السلام) وأن رسول الله أوضح لهم بيانها وشرحها في "غدير خم". الكافي 1 : 289 .

والأحاديث في بيان ولاية الإمام علي وأبنائه في القرآن الكريم كثيرة متواترة لا يتسع لها هذا البيان المختصر.

فتلخص من ذلك أنَّ ولاية الإمام علي وأبنائه (عليهم السلام) مذكورة في القرآن الكريم، وقد أكدت السنة الشريفة هذا البيان وفصَّلته وشرحته، كما هو الحال في الصلاة ـ على سبيل المثال ـ ، فالقرآن الكريم فرض الصلاة وأوجبها، وقامت السنة الشريفة ببيان عدد ركعات الفرائض وما يرتبط بها من أحكام الوقت والطهارة وغير ذلك.

والله وليُّ التوفيق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

كلامٌ حول حديث «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»