أهل الكوفة وعلاقتهم بقتل الحسين (ع) [4/4]

| الأمر الخامس: ذم أهل الكوفة ومدحهم في الروايات

[ذمّ أهل الكوفة]

وأما صفات أهل الكوفة بشكلٍ عام، فنقتصر على ذكر صفتَين من صفاتهم الذميمة التي وُصِفوا بها تلك الفترة:

1. الخذلان والمَيل إلى الراحة

قول عليٍ (عليه السلام) مخاطبًا أهل الكوفة من المتخاذلين عن نصرته: (فيا عجبًا والله يميتُ القلب ويجلب الهمَّ من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرُّقكم عن حقِّكم، فقبحًا لكم وترحا، حين صرتم غرضًا يُرمى، يُغار عليكم ولا تُغيرون، وتُغزَون ولا تَغزون، ويُعصى الله وترضَون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارة القيظ أمهلنا يسبخ عنّا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صبارة القر أمهلنا ينسلخ عنّا البرد، كلّ هذا فرارًا من الحرّ والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرّون، فإذًا أنتم والله من السيف أفرُّ، يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربّات الحجال، لوَدَدتُ أنّي لم أركم ولم أعرفكم، معرفةٌ والله جرَّت ندمًا وأعقبت سدمًا، قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحًا، وشحنتم صدري غيظًا، وجرَّعتموني نغب التهمام أنفاسًا، وأفسدتُم على رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريشٌ إن ابن أبي طالب رجلٌ شجاعٌ، ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم، وهل أحدٌ منهم أشدُّ لها مراسًا، وأقدم فيها مقامًا منّي، لقد نهضتُ فيها وما بلغتُ العشرين، وها أنا ذا قد ذرفتُ على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يُطاع"(1).

2. صفة الغدر ونقض العهود

عن الحارث الهمداني، قال: "لما مات عليٌ (عليه السلام)، جاء الناس إلى الحسن بن علي (عليه السلام)، فقالوا: (أنت خليفة أبيك، ووصيُّه، ونحن السامعون المطيعون لك، فمُرنا بأمرك)، قال (عليه السلام): (كذبتم والله، ما وفيتم لمن كان خيرًا منّي، فكيف تفون لي؟ أ وكيف أطمئن إليكم ولا أثق بكم؟ إن كنتم صادقين، فموعد ما بيني وبينكم معسكر المدائن، فوافوني هناك)، فركب وركب معه من أراد الخروج، وتخلَّف عنه خلقٌ كثيرٌ لم يفوا بما قالوه وبما وعدوه، وغرّوه كما غرّوا أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبله، فقام خطيبًا وقال: (قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي، مع أي إمامٍ تقاتلون بعدي؟! مع الكافر الظالم الذي لم يؤمن بالله ولا برسوله قط ولا أظهر الإسلام هو ولا بنو أمية إلا فَرَقًا من السيف؟! ولو لم يَبقَ لبني أميّةَ إلا عجوزٌ درداء لبغت دين الله عوجًا، وهكذا قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
وعندما أرسل الإمام (عليه السلام) أحد بني كِندة لمحاربة معاوية فأغراه معاوية بالمال والمنصب، فانضمّ إلى معاوية، ولمّا بلغ الحسن (عليه السلام) ذلك، قام خطيبًا وقال: (هذا الكندي توجه إلى معاوية وغدر بي وبكم، وقد أخبرتكم مرَّةً بعد أخرى أنَّه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا، وأنا موجهٌ رجلاً آخر مكانه، وأنا أعلم أنه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبه، لا يراقب الله فيَّ ولا فيكم). فبعث إليه رجلاً من مراد في أربعة آلاف، وتقدَّم إليه بمشهدٍ من الناس، وتوكّد عليه، وأخبره أنه سيغدر كما غدر الكندي، فحلف له بالأيمان التي لا تقوم لها الجبال أنه لا يفعل، فقال الحسن (عليه السلام): (إنه سيغدر)، وفعلاً أغراه معاوية أيضًا لينضمّ إليه ولم يحفظ ما أخذ عليه من العهود، وبلغ الحسن (عليه السلام) ما فعل المرادي، فقام خطيبًا وقال: (قد أخبرتكم مرَّةً بعد مرَّة أنكم لا تفون لله بعهود، وهذا صاحبكم المرادي غدر بي وبكم، وصار إلى معاوية)، ثم كتب معاوية إلى الحسن (عليه السلام): (يا ابن عم، لا تقطع الرحم الذي بيني وبينك؛ فإن الناس قد غدروا بك وبأبيك من قبلك)، فقالوا (أهل الكوفة): (إن خانك الرجلان وغدرا، فإنّا مناصحون لك)، فقال لهم الحسن (عليه السلام): (لأعودَنَّ هذه المرة فيما بيني وبينكم، وإني لأعلم أنكم غادرون، والموعد ما بيني وبينكم، إن معسكري بالنخيلة، فوافوني هناك، والله لا تفون لي بعهد، ولتنقضنّ الميثاق بيني وبينكم).
ثم إن الحسن أخذ طريق النخلة، فعسكر عشرة أيام، فلم يحضره إلا أربعة آلاف، فانصرف إلى الكوفة، فصعد المنبر وقال: (يا عجبًا من قومٍ لا حياء لهم ولا دين، مرَّةً بعد مرَّة، ولو سلَّمتُ إلى معاوية الأمر، فأيم الله لا ترون فرجًا أبدًا مع بني أميّة، والله ليسومنكم سوء العذاب، حتى تتمنَّون أن يلي عليكم حبشيًا، ولو وجدتُ أعوانًا ما سلَّمتُ الأمر له؛ لأنه محرَّمٌ على بني أميّة، فأُفٍّ وترحًا يا عبيد الدنيا)، وكتب أكثر أهل الكوفة إلى معاويةَ بأنّا معك، وإن شئتَ أخذنا الحسن وبعثناه إليك، ثم أغاروا على فسطاطه، وضربوه بحربة، فأُخِذَ مجروحًا، ثم كتب جوابًا لمعاوية: (إنَّ هذا الأمر لي، والخلافة لي ولأهل بيتي، وإنها لمحرمةٌ عليك وعلى أهل بيتك، سمعته من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، لو وجدتُ صابرين عارفين بحقي غير منكرين ما سلَّمتُ لك ولا أعطيتك ما تريد)، وانصرف إلى الكوفة"(2).
وهذا المقطع الأخير من قول الإمام (عليه السلام) يبيِّن اتجاه أهل الكوفة وأنَّ الأقلية هم الذين كانوا يعتقدون بإمامته ويعرفون حقه.

وكذلك قول الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يخاطب أهل الكوفة بعد خذلانهم: (فهؤلاء تعضدون، وعنّا تتخاذلون!! أجل والله، خذلٌ فيكم معروف، نبتت عليه أصولكم واتذرت عليه عروقكم، فكنتم أخبث ثمر شجر للناظر، وأكلةً للغاصب، ألا لعنة الله على الظالمين الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله عليهم كفيلاً، ألا وإن الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلة والذلة، وهيهات له ذلك مني! هيهات منّا الذلة! أبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طهرت وجدودٌ طابت)(3).

وقول الحوراء (عليها السلام): (أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر والخذل)(4).

ثم إنه نُقِل أن عمر أيضًا شكا أهل الكوفة في زمانه، وكان الغالبية على مذهبه، فقد روى البلاذري: "وعزل عمر سعدًا وولَّى عمار بن ياسر، فشكوه وقالوا: (ضعيفٌ لا علم له بالسياسة)، فعزله، وكانت ولايته الكوفة سنةً وتسعة أشهر، فقال عمر: (من عذيري من أهل الكوفة! إن استعملت عليهم القوي فجروه، وإن وليت عليهم الضعيف حقروه)"(5).

مدح أهل الكوفة

ما ورد من الذم السابق وغيره لا يعني أنّ هذه الصفات هي لأهل الكوفة في كل عصر، كما هو الحال في أي ذمٍّ يصدر تجاه أهل مدينةٍ معيَّنة، وما تقدَّم إنما هو من عصر الأمير (عليه السلام) إلى عصر الإمام الحسين (عليه السلام)، وأما بعده، فيحتاج إلى دليلٍ على بقاء هذه الصفات فيهم.
وذكرنا في المقدمة بعض النصوص المادحة لمدينة الكوفة والمبيِّنة لمقامها وقدسيّتها، وهنا نذكر بعض الروايات المادحة لأهل الكوفة، وقد وردت على لسان كثيرٍ من المعصومين (عليهم السلام)، فمنها:
ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (هذه مدينتنا ومحلُّنا ومقرُّ شيعتنا).
وعن سلمان (رضي الله عنه) –وهو تلميذ عليٍ (عليه السلام)-، قال: (الكوفة قبة الإسلام، يأتي على الناس زمانٌ لا يبقى مؤمنٌ إلا وهو بها أو يهوي قلبه إليها)(6).
وعن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (تربةٌ تحبنا ونحبها)، (اللهم ارمِ من رماها، وعادِ من عاداها)(7).
وعنه (عليه السلام) أيضًا: (إن الله عرض ولايتنا على أهل الأمصار، فلم يقبلها إلا أهل الكوفة)(8).
وعنه (عليه السلام): (إن ولايتنا عُرِضَت على السماوات والأرض والجبال والأمصار ما قبلها قبول أهل الكوفة)(9).
وعن عبدالله بن الوليد الكندي، قال: "دخلنا على أبي عبدالله (عليه السلام) في زمن مروان، فقال: (من أنتم؟)، فقلنا: (من أهل الكوفة)، فقال: (ما من بلدةٍ من البلدان أكثر محبًا لنا من أهل الكوفة، ولا سيّما هذه العصابة، إنّ الله (جلّ ذكره) هداكم لأمرٍ جهله الناس، وأحببتمونا وأبغضنا الناس، واتبعتمونا وخالفنا الناس، وصدّقتمونا وكذّبنا الناس، فأحياكم الله محيانا، وأماتكم [الله] مماتنا، فأشهد على أبي أنه كان يقول: (ما بين أحدكم وبين أن يرى ما يقر الله به عينه وأن يغتبط إلا أن تبلغ نفسه هذه –وأهوى بيده إلى حلقه- وقد قال الله في كتابه: (( ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجًا وذريّة))(10) فنحن ذرية رسول الله (صلَّى الله عليه وآله))"(11).
والمدح هنا من الإمام (عليه السلام) لخصوص شيعتهم ومحبيهم، وهناك روايةٌ أخرى تبيِّن أنَّ أهل الكوفة زمن الصادق (عليه السلام) فيها الشيعة وفيها غيرهم، فعن المفضّل بن عمر، قال: "خرج أبو عبدالله الصادق (صلوات الله عليه) وأنا معه إلى بعض قرى سواد الكوفة، فلمَّا رجعنا رأينا على الطريق رجلاً يلطم رأسه ويدعو بالويل والعويل وبين يديه حمارٌ قد خنق، كان عليه رحله وزاده، فنظرتُ إليه فرحمته، فقلت: (لو أدرَكَتْ يا مولاي هذا البائس رحمتك ودعوت له أن يحيي حماره، قال: (يا مفضّل إني أفعل هذا به، فأسأل الله (تعالى) فيحييه له، فإذا أحييناه سأَلَنا من نحن، فنعرِّفه أنفسنا، فيدخل الكوفة فينادي علينا فيها، ويقول للناس: (هاهنا رجلٌ يُعرَف بجعفر بن محمد، وهو ساحرٌ كذّاب)، فيقولون له: (ما رأيت من سحره؟)، فيحدثهم بالذي كان، فإذا سمعوه، فرحت شيعتنا، واغتمّ أعداؤنا، وينسبوننا إلى السحر والكهانة، وإنّ الجنّ تحدثنا وتطيعنا، ويكذبون علينا، فادنُ منه وخذ عليه العهد إن أحيينا له حماره لا يُشَنِّع علينا؛ فإنه يعطيك ولا يفي، وما تشنيعه علينا بضارٍّ، بل يشنِّع علينا أكثر أهل الكوفة من أعدائنا). قال المفضَّل: فدنوتُ منه، فقلتُ له: (إن أحيى سيدنا لك حمارك تكتم عليه ولا تشنّع به؟)، قال: (نعم)، وأعطى عهد الله وميثاقه على ذلك فحلف، ودنا سيدنا أبو عبدالله الصادق (صلوات الله عليه) من حماره وتكلَّم بكلماتٍ، وقال لصاحب الحمار: (امدد برأسه)، فمدّه، فنهض حيًا، وحمل عليه رحله ودخل الكوفة، ونادى وشنّع في الناس والطرق، وقال: (إن هاهنا ساحر، يُعرَف بجعفر بن محمد، مرّ بحماري وهو ميّتٌ، فتكلَّم عليه بسحره فأحياه، فشنّع أكثر الناس المخالفين من أجل ذلك، وقال لي من قابل: (اخرج  يا مفضّل، فإنك تلقى صاحب الحمار سائل العينين، أصمّ الأذنين، مقطوع اليدين والرجلَين، أخرس اللسان على ظهر ذلك الحمار يُطافُ به)، فكان كما قال (صلوات الله عليه)(12).

الخاتمة

تبيّن مِمّا تقدَّم:
* أن الفِرية التي تتردَّد كل عامٍ لتشويه مذهب أهل البيت (عليهم السلام) من أنّ الشيعة هم من قتل الإمام الحسين (عليه السلام)، وهم من خالف عليًا والحسن (عليهما السلام)، وهم الذين ورد فيهم الذمّ ما هي إلا نتاج حقدٍ على أهل البيت (عليهم السلام)، وأنّ هذه الفِرية لا تصمد أمام التاريخ ولا أمام الدليل.
* وأن معنى التشيُّع يتناقض تمامًا مع من شارك في قتل سيد الشهداء (عليه السلام) أو وقف في صفِّ أعدائه
* وأن ما ورد من الذمّ إنما هو في زمنٍ معيَّنٍ لم يكن فيه الشيعة أكثرية، بل كان أهل الكوفة على مذاهب وطوائف مختلفة، فهو متوجهٌ إلى أصحاب المذاهب الأخرى أكثر مِمَّا هو متوجِّهٌ إلى الشيعة.
* وأن الذمّ –على افتراض شموله لبعض الشيعة- لم يكن بالتأكيد بسبب تشيُّعهم، كيف والذم صادرٌ لتخلفهم عن أهل البيت (عليهم السلام) وخذلانهم لهم، بينما التشيُّع هو اتباع أهل البيت (عليهم السلام) وطاعتهم طاعةً مطلقة!!
نسأل الله أن يثبتنا على طاعتهم ومودتهم، وآخر دعوانا أن الحمدلله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.


-------------------------------
(1)
(2)
(3)
(4)
(5)
(6)
(7)
(8)
(9)
(10)
(11)
(12)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

هل ورد أن "أبا صالح" كنيةٌ للمهدي عج؟