أهل الكوفة وعلاقتهم بقتل الحسين (ع) [4/1]


إن مسألة حال أهل الكوفة وما ورد فيهم من الذمة على لسان مجموعةٍ من المعصومين (عليهم السلام) كالأمير (عليه السلام) اغتنمها كثيرٌ من الحاقدين على مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وصوَّروا أنَّ الذمّ الموجود متوجّه لأهل الكوفة لأنهم شيعةٌ وأتباعٌ لأهل البيت (عليهم السلام)، وأنَّ هؤلاء الشيعة هم الذين خذلوا أمير المؤمنين والحسن المجتبى (عليهما السلام)، وهم الذين قتلوا إمامهم الحسين (عليه السلام)!!؟
وهذه اسطوانةٌ تَتَرَدَّدُ كلَّ عامٍ خصوصًا في أجواء شهر محرم؛ حيث يحيي المحبّون لأهل البيت (عليهم السلام) ذكرى مقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، وهذا ما يغيض الحاقدين والموتورين؛ حيث يستفزّهم هذا الارتباط العميق بين الشيعة وبين إمامهم الحسين (عليه السلام)، وما يؤثِّره إحياء هذه المناسبة من فضح مشروع ساداتهم الأمويّين من أمثال يزيد وأبيه معاوية.
ونريد في هذه المقالة أن نبحث عن تاريخ مدينة الكوفة بشكلٍ مختصر، وعن مذاهب أهلها، ومَن الذي شارك في قتال الحسين (عليه السلام)، والكلام في عدة أمور:

| الأمر الأول: مكانة الكوفة وقدسيّتها

لا يوجد تلازم بين أهل منطقةٍ معيَّنةٍ وبين نفس الأرض التي يعيشون عليها من حيث المدح والذم، فأهل مكة كانوا مذمومين قبل الإسلام لشركهم وعبادتهم الأصنام وتلويثهم بيت الله الحرام، ولكن أرض مكة هي من أشرف بقاع الأرض، وكذلك بعد الإسلام، ففيهم المنافقون حتى يومنا هذا، فما فيها من المحبين لأهل البيت (عليهم السلام) إلا القليل.
وتُعتَبَر مدينة الكوفة من المدن المقدسة في الإسلام، وقد وردت فيها أحاديث كثيرة تُشير إلى فضلها، منها: عن أبي عبدالله (عليه السلام): "الكوفة روضةٌ من رياض الجنة، فيها قبر نوح وإبراهيم وقبور ثلاثمائةٍ نبي وسبعين نبيًا وستمائة وصيٍ، وقبر سيّد الأوصياء أمير المؤمنين (عليه السلام)"(1).
والنجف تابعةٌ للكوفة، وهي حرم أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما ورد عن الصادق (عليه السلام): "إنّ لله حرمًا وهو مكة، وإن للرسول (صلَّى الله عليه وآله) حرمًا وهو المدينة، وإنَّ لأمير المؤمنين (عليه السلام) حرمًا وهو الكوفة، وإنَّ لنا حرمًا وهو بلدة قم، وستُدفَن فيها امرأةٌ مِن أولادي تُسَمَّى فاطِمة، فمن زارها وجبت له الجنَّة"(2).
ومن أشهر ما فيها مسجد الكوفة الذي هو أحد المساجد الأربعة التي يتخيَّر فيها المُصَلّي بين القصر والتمام، وإنَّ ثواب الصلاة فيه مضاعفة، وعن الأمير وعن حفيده السجاد (عليه السلام): "ولو علم الناس ما فيه من الفضل، لأتوه (حبوًا)"(3).
وفي تفسير العياشي في روايةٍ مرسَلةٍ عن الأمير (عليه السلام): أول بقعةٍ عُبِدَ الله عليها ظهرُ الكوفةِ لمَّا أمر الله الملائكةَ أن يسجدوا لآدمَ، سجدوا على ظهر الكوفة"(4).
وعن الكاظم (عليه السلام) عن آبائه عن النبي (صلَّى الله عليه وآله): "إنَّ الله اختارَ من البلدان أربعةً فقال: (( والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين ))، فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سنين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكة"(5).
وعن هارون بن خارجة، قال: "قال أبو عبدالله (عليه السلام): كم بينك وبين مسجد الكوفة يكون ميلاً؟ قلتُ: لا. قال: فتصلّي فيه الصلاةَ كلها؟ قلتُ: لا. قال: أما لو كنتُ حاضرًا بحضرته، لرجوتُ أن لا تفوتني فيه صلاة، أ وتدري ما فضل ذلك الموضع؟ ما من نبيٍ ولا عبدٍ صالحٍ إلا وقد صلَّى في مسجد الكوفة، حتّى أنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لمّا أُسريَ به إلى السماء، قال له جبرئيل (عليه السلام): أ تدري أين أنت يا محمد الساعة؟ أنت مقابل مسجد كوفان، قال: فاستأذن لي أصلّي فيه ركعتين، فنزل، فصلَّى فيه. وأنّ مقدّمَه لَروضةٌ من رياض الجنة، وميمنته لَروضةٌ من رياض الجنة، وأنّ وسطه لَروضةٌ من رياض الجنة، وأنَّ مؤخَّره لَروضةٌ من رياض الجنة، والصلاة فيه فريضةٌ تعدل بألف صلاةٍ، والنافلة فيه بخمسمائة صلاة"(6).

عاصمة الأمير والدولة المهدوية

ومِمَّا يزيد ويبيّن قدسية هذه المدينة، اتخاذها من قِبَل أمير المؤمنين (عليه السلام) عاصمةً لحكومته، وكذلك تكون عاصمةً للدولة المهدوية المباركة، كما في الروايات، وفيها حدثت أحداثٌ كثيرةٌ على مرِّ التاريخ، إذًا لهذه المدينة شأنٌ عظيمٌ، ولكن ليس السبب في عظمتها شرف أهلها، كما هو الحال في مكة المعظَّمة كما تقدَّم.

| الأمر الثاني: تاريخ إنشاء هذه المدينة

ذُكِرَ أنَّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) وقَّت لأهل العراق ذات عرق، ولم يكونوا أسلموا بعد، فعن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام)، قال: "من تمام الحج والعمرة أن تحرم من المواقيت التي وقّتها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ولا تجاوزها إلا وأنت محرم؛ فإنه وقّت لأهل العراق ولم يكن يومئذٍ عراق بطن العقيق من أهل العراق... "(7)، وهذه من إخباراته (صلَّى الله عليه وآله) بالغيب؛ حيث كان يعلم بأنَّ هذه الأرض ستدخل في الإسلام.
ونُقِل أنّه نزلتها قبل الإسلام قبائلُ عديدةٌ، وكذلك بعد الإسلام، ونُقِل أنَّها مُصِّرَت وصُيِّرَت (مدينةً) في عهد الخليفة الثاني(8)، وذلك بعد أن فُتِحَت المدائن في العراق بقيادة سعد بن أبي وقّاص في السنة السابعة عشر للهجرة، وبسبب كثرة البعوض فيها بحثوا عن مكانٍ آخر للعسكر.
ونقل الطبري "أن سعد بعث حذيفة وسلمان، فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار، فسار في غربي الفرات لا يرضى شيئًا حتى أتى الكوفة –والكوفة على حصباء، وكلّ رملةٍ حمراء يُقال لها: سهلة، وكلّ حصباء ورمل هكذا مختلطين، فهو كوفة- فأتيا عليها وفيها ديرات ثلاثة: دير حرقة، ودير أمر عمرو، ودير سلسلة، وخصاص خلال ذلك، فأعجبتهما البقعة، فنزلا فصلَّيا، وقال كلّ واحدٍ منهما: (اللهم ربَّ السماء وما أظلّت، وربَّ الأرض وما أقلَّت، والريح وما ذرت، والنجوم وما هوت، والبحار وما جرت، والشياطين وما أضلَّت، والخصاص وما أجنت، بارك لنا في هذه الكوفة، واجعله منزل ثبات)، وكتب إلى سعد بالخبر"(9).
وعن الشعبي، قال: "كنا –يعني أهل اليمن- اثني عشر ألفًا، وكانت نزار ثمانية آلاف، أ لا ترى أنَّا أكثر أهل الكوفة؟ وخرج سهمنا بالناحية الشرقية، فلذلك صارت خططنا بحيث هي"(10).
وجاءت قبائل متعدِّدة وسكنت هذه الأرض، منهم: كِندة، ومذحج وطيّ، وأشعر، ولخم، وجذام، وأزد، وخثعم، وهَمْدان، فهؤلاء النزاريون. أما المضريّون، فمنهم: قيس عيلان، وبطونه، وربيعة أخو مضر، وإياد أخو مضر، وربيعة، والعكوك، فهؤلاء الذين توطَّنوا الكوفةَ وهم زهاء 400 بطن(11). ونُقِلَ أنه: "كان بالكوفة ثلاثمائة وستون قبيلة، وأربعمائة راية"(12). وهناك مجموعةٌ من العجم سكنوا الكوفة بعد إسلامهم(13).

والنتيجة: إن أهل الكوفة ليسوا أهل مدينةٍ واحدةٍ، بل هم مجموعةٌ كبيرةٌ جدًا من القبائل المختلفة في العادات والتقاليد، وأعدادهم تُقَدَّر بعشرات الآلاف، وربما أكثر، وطبيعيٌ أن لا يكونوا على مذهبٍ واحدٍ كما يأتي.


--------------------------------
(1) الوسائل: ج14، ص387.
(2) مستدرك الوسائل: ج10، ص368.
(3) بحار الأنوار: ج97، ص395 وص245.
(4) تفسير العياشي: ج1، ص34.
(5) معاني الأخبار: ص365، والخصال: 225، والوسائل: ج14، ص361.
(6) المحاسن للبرقي: ج1، ص56.
(7) الكافي: ج4، ص318.
(8) في لسان العرب: "وكان عمر مصّر الأمصار كما يُقال مدّن المدن منها البصرة والكوفة".
(9) تاريخ الطبري: ج3، ص146.
(10) فتوح البلدان للبلاذري: ج2، ص339، وتاريخ الكوفة للسيد البراقي: ص135.
(11) راجع: تاريخ الكوفة للبراقي: ص225، فقد فصَّل في أسماء تلك القبائل وفي فخوذها المتفرِّعة منها.
(12) تاريخ الكوفة للبراقي: ص228.
(13) راجع: فتوح البلدان: ج2، ص344.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

كلامٌ حول حديث «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»