هل ذبح تقسيمُ الأسانيدِ حديثَ أهل البيت؟


كتب لي بعض أهل العلم سؤالاً يطلب فيه بإلحاح الحديث عن حقيقة ما يُقال حول تقسيم الحديث عند المتأخرين من علمائنا، وهل إن هذا التقسيم يؤدّي كما قيل إلى طرح الكثير من رواياتنا لعدم كونها صحيحة بحسب هذا التقسيم؟ وهل أيضًا صحيح ما يُقال من إن هذا التقسيم يؤدي إلى إبطال -والعياذ بالله- الكثير من فضائل مولانا أمير المؤمنين وأبنائه الطاهرين؟ لعدم كونها صحيحة بحسب هذا التقسيم؟ وهكذا ما نسمعه من إن هذا التقسيم هو من البِدَع التي لحقت الدين؟

والجواب: أقول ومنه أستمد العون والتوفيق، وبيان الجواب في ضمن نقاط:

💠 النقطة الأولى:
من الواضح والمُسَلَّم به أن القدماء من فقهائنا قسّموا الحديث إلى نوعين: صحيح، وغير صحيح، ومُرادهم من الحديث الصحيح مُغاير للحديث الصحيح المصطلح عند المتأخرين، فيريدون من الحديث الصحيح هو كل خبر مقبول ولو بلحاظ مضمونه حتى لو كان سنده ضعيفًا.

فيكون مقصود القدماء من فقهائنا بالحديث الصحيح هو الحديث المقبول، إما من حيث المضمون لاحتفافه بقرائن تشهد بصحته مضمونًا، أو من حيث صحته سندًا، والحديث غير الصحيح هو الحديث غير المقبول مضمونًا أو الضعيف سندًا دون وجود قرائن تدلُّ على صحته، فهذا التقسيم الثنائي هو المتعارف بين قدماء الفقهاء إلى زمان العلامة الحلي شيخ الشيعة وفقيههم في زمانه؛  فإنه رضوان الله عليه أعطى  تقسيمًا جديدًا للحديث، قسّم فيه الحديث إلى أربعة أقسام، وهي:

1- الصحيح: ويُراد منه الخبر الذي رواه الشيعي الإمامي الإثناعشري العدل، رواه عن عدلٍ مثله في جميع سلسلة السند من مبدئه إلى منتهاه. فمتى ما وقع في سلسلة السند من ليس على هذه الصفة لم يصح إطلاق مصطلح الصحيح عليه.

2- الخبر الحسن: وهو ما كان رجال سنده إمامي ممدوحٌ، لكن لم يُنَصّ على وثاقته، عن مثله أو وقع في بعض رجاله من كان كذلك ولو كان باقي رجال السند ممن نُصَّ على وثاقته.

3- وهو الخبر الموثق أو الموثَّق: الذي وقع في سنده من ليس إمامي المذهب، سواء كان غير شيعي أصلاً أو كان من سائر الفرق الشيعية كالواقفية أو الأفطحية أو الزيدية أو الناووسية، ولكنه ممن نُصَّ على وَثاقته.

4- الخبر الضعيف: وهو الخبر الذي وقع في سنده مِمَّن صرح بضعفه أو بعدم وثاقته أو مِمَّن لم يُنَصّ على وثاقته ولوكان باقي رجال سنده ثقات.

هذا هو التقسيم الذي حدث عند المتأخرين والذي يُعتَبَر المؤسِّس له العلامة الحلي (ره) أو شيخه السيد أحمد ابن طاووس. وقد اعترف المحققون من علمائنا بأن هذا اصطلاحٌ جديدٌ لم يكن معروفًا بين المتقدِّمين من فقهائنا (رحمهم الله تعالى).


💠 النقطة الثانية: ما هو الغرض من هذا التقسيم وما هو الهدف منه؟

من الواضح جدًا لمن لاحظ هذا التقسيم، أن مَصَبَّ التقسيم هو ملاحظة صفات الرواي من حيث سلامة عقيدته أو فسادها، من حيث المدح وعدمه، من حيث النصِّ والتصريح بالوثاقة وعدمها، يتبيَّن أن الغرض من هذا التقسيم هو التنبيه على حال رواة الحديث، فإن كان الخبر صحيحًا عنى ذلك إنه لا يوجد أي خلل أو نقص في رجال سنده لا من حيث العقيدة ولا من حيث الوثاقة، وإن كان الخبر حسنًا عنى ذلك وجود خللٍ في رجال الحديث أو بعضهم من جهة عدم التصريح بوثاقتهم أو بعضهم، وإن كان ممدوحًا مدحًا لكن لا يبلغ به حد الوثاقة، وإن كان الخبر ضعيفًا عنى ذلك أن رجال سند الحديث أو بعضهم ممن صُرِّح بضعفهم وقدحهم.

إذن، الغرض من هذا التقسيم هو التنبيه على حال رجال الحديث فقط لا غير وهي فائدة علمية جليلة من حيث الوقوف على حال الرواة ووثاقتهم من حيث الصفات المشار إليها سابقًا.


💠 النقطة الثالثة: هل يؤدي هذا التقسيم لطرح أحاديثنا؟

يفهم البعض إن هذا التقسيم الرباعي خطيرٌ جدًا وإنه يؤدي إلى طرح روايات أهل البيت (عليهم السلام)، لأن قسمًا كبيرًا منها غير صحيح بحسب هذا المصطلح المتأخر في تقسيم الحديث؛ لأنها إما تكون من قسم الخبر الحسن أو من قسم الخبر الموثوق.

حتى أنّ مثل المحدث الاسترابادي عكس تلك الخطورة من هذا التقسيم بقوله أن الدين هُدِم مرتين: مرة يوم السقيفة وأخرى يوم تقسيم الأخبار إلى هذه الأقسام.

والمنصف الموضوعي يرى أن هذا التقييم فيه مبالغة غير واقعية وبعيدةٌ تمامًا عن الغرض من هذا التقسيم، حيث لا يُراد من هذا التقسيم طرح روايات أهل البيت (عليهم السلام) إذا كانت جامعة لشرائط الحجية، وإنما الغرض من هذا التقسيم كما شرحناه هو مجرد التنبيه على حال رجال السند من حيث سلامة عقيدة الراوي ومدحه ووثاقته أو ضعفه هذا أولاً، وأما ثانيًا فمن المعروف بين المحققين من علمائنا أنّ ما دلَّ على حجية الخبر لا يحصر الحجية أو يقصرها على خصوص الخبر الصحيح، بل أدلة حجية الخبر تشمل الخبر الصحيح والحسن والموثق، بل حتى الخبر الضعيف إذا حُفَّ بقرائن تدل على صدوره كما هو واضح في سيرة فقهائنا من أخذهم وعملهم بالخبر الضعيف إذا حُفَّ بقرائن تدل على صدوره، فأين هو الطرح لروايات أهل البيت بحسب هذا التقسيم؟ وفي الحقيقة إن هذا الكلام ناشئ من الغفلة وعدم الدقة في المطالب العلمية.


💠 النقطة الرابعة:
وأما ما يقال من أن نتيجة هذا التقسيم هو طرح فضائل ومناقب مولانا أمير المؤمنين، فمن الغرائب ومن أعجب العجائب أن يُتهم مثل العلامة الحلي (ره) -المشيد لأركان المذهب والمدافع عنه، والذي لايمكن إنكار أفضاله وجهوده وجهاده- أن غرضه من هذا التقسيم الرباعي هو طرح روايات وفضائل ومناقب أمير المؤمنين (ع)، وهذا كلام بعيد عن الدقة العلمية.

وتوضيح ذلك: إن ماجاء من الروايات في فضائل أمير المؤمنين (عليه الصلاة وأتم التسليم) على أقسام :

1- ما كان متواترًا: فقد تواترات جملة كبيرة من الروايات في فضائل أمير المؤمنين (ع)، ومع كونها متواترة فهي تفيد العلم وهذا القسم حجة لكونه مولِّدًا للعلم .

2- ما كان مستفيضًا: ولا شكَّ في تحقق الاستفاضة لجملة من الروايات الواردة في فضائل مولانا أمير المؤمنين، والاستفاضة مفيدةٌ للاطمئنان وهو حجة، ومع إفادة هذا القسم للاطمئنان فلا حاجة لملاحظة الأسانيد.

3- ما كان صحيحًا: وهذا مِمَّا لا شكَّ فيه، فقد جاءت روايات صحيحة من طرق الفريقين في فضائل أمير المؤمنين وأبنائه، وما كان صحيحًا لا مجال لطرحه.

4- ما جاء من الروايات عن طريق خصوم وأعداء أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) والتي تشهد بفضله وتقدمه وغير ذلك، وهذه الروايات من الناحية المنطقية لا يمكن تكذيبها؛ وذلك لأن القاعدة تقول أن رواية الخصم لفضائل خصمه دليل على وضوح ذلك وعدم إمكان إنكاره، فطبيعة الخصومة تدعو الخصم لطمس ودفن فضائل محسوده، فروايتهم لها دليل على عدم وجود مجال إنكارها، وهذا القسم أيضًا يفيد الاطمئنان وهو حجة، ومعه لا مجال لطرح روايات هذا القسم بعد حصول الاطمئنان.

5- ما جاء في المصادر المعتمدة عند علماء الفريقين وهذا أيضًا لا مجال لإنكاره.

والخلاصة: إن هذا التقسيم له غرضه العلمي المحض، وهو التنبيه على حال رجال السند من دون قصر الحجية على خصوص الصحيح، بل جرت سيرة علمائنا على تعميم الحجية للأقسام الثلاثة، وعلى ذلك جرت سيرتهم، بل حتى الخبر الضعيف عملوا به في بعض الحالات، وهذا يُدَلِّل بوضوح على عدم صحة تلك التهم والإشكالات حول هذا التقسيم. 

💠 النقطة الخامسة:
تقدم في النقاط السابقة أن هذا التقسيم حدث عند المتأخرين من الفقهاء ولم يكن معروفًا بين المتقدمين، وأن الغرض منه ليس غرضًا عمليًّا بمعنى الالتزام بخصوص الخبر الصحيح وطرح بقية الأقسام، وإنما الغرض علمي محض وهو النكتة السندية فقط والتنبيه على حال رواة ورجال سند الحديث.

وهذا لا يُبَرِّر تلك الحملة التي شنَّها البعض وأطلق من خلالها الأحكام القاسية، واعتبار ذلك التقسيم هدمًا للدين، أو إلحاق هذا العمل العلمي الفني بالبدعية، كل ذلك لا مُبَرِّر له من أساس، فحتى بعد وجود هذا التقسيم وتنويع الخبر لهذه الأقسام فإن واقع العمل الفقهي بين فقهائنا قائم على طريقة القدماء من العمل والأخذ بالخبر الذي ثبت صحته إما من حيث المضمون ولو لاحتفافه بقرائن، أو من حيث اعتبار سنده، سواء أُطلق عليه مصطلح الصحيح أو لم يطلق عليه، أُطلق عليه مصطلح الحسن أم لم يطلق عليه، أطلق عليه مصطلح الموثق أو لم يطلق عليه، فإن هذا لا أثر له بعد عموم الدليل على حجية خبر الثقة الشامل بعمومه لجميع الأقسام الثلاثة، بل جرت سيرة الفقهاء على العمل بالخبر الضعيف إذا ثبت انجبار ضعفه إما بعمل المشهور أو تلقيهم للعمل به أو كانت روايات الخبر في غالب الكتب المعتمدة والأصول المعروفة بين فقهائنا مع عدم وجود معارض له من سائر الأخبار وخلو مضمونه من الغرابة والشذوذ كما هو واضح لمن لاحظ سيرة مشهور فقهائنا في استدلالاتهم الفقهية.

نعم هناك مسلك لدى بعض فقهائنا من اعتبار الإيمان في الراوي واختصاص الحجية عندهم بخصوص الخبر الصحيح كما هو مبحوث في ذيل بحث حجية خبر الواحد من بحث الأصول، فلذا لا يعملون بخبر المخالف في الاعتقاد كما يظهر ذلك من السيد العاملي صاحب كتاب مدارك الأحكام، وربما يظهر أيضا من العلامة الحلي في بعض كتبه الفقهية من التوقف في الأخذ ببعض الروايات بحجة أن الراوي فاسد العقيدة كما لوكان واقفيًا أو غيره، بل حتى المحقق الحلي حيث يظهر عنده التوقف في بعض الموارد من كتابه المعتبر.

ولكن هذا خلاف التحقيق العلمي من جهة، ومن جهةٍ أخرى لا يمثل رأي مشهور فقهائنا، وثالثةً أن أصحاب هذا الرأي اضطربت طريقتهم في ذلك، فمرة يعملون بالخبر الموثق وأخرى يتوقفون فيه، وقد تعرَّضتُ لسبب هذا الاضطراب ومناشئه بشكل مفصل وفي فصل خاص من كتابي حلقات في علم الحديث وهو مخطوط غير مطبوع.

تعليقات

  1. أحسنتم.
    لكن المعروف والذي تطفح به كلماتهم رحمهم الله أن الغاية ليس مجرد تقويم رجال الحديث، فذلك من وظيفة الرجالي، وإنما الغاية المفاضلة بين الأخبار في مقام الاستدلال والتعارض وفقًا لمرتبة الحديث من حسن وموثق وو.
    ومراجعة فاحصة سريعة لاستدلالات صاحب المدارك وغيره تظهر ذلك وبشدة.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

كلامٌ حول حديث «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»