المحذور في تأسيس فقهٍ جديد [3/1]
![]() |
الشيخ معين دقيق العاملي |
السؤال: يرِدُ في كثير من الأبحاث الفقهية والأصولية عبارة لزوم تأسيس فقه جديد، بمعنى أنّ هذا اللزوم تالٍ فاسد يُحكم ببطلان ملزومه ومقدّمه، وقد ورد في كلام بعضٍ مقولة معيّنة يكون لازمها تأسيس فقه جديد. فأجاب عن ذلك: "أنّه لم يثبت عندنا أنه لا بدّ من بقاء حجر على حجر، وأنّه لا يجوز تأسيس فقه جديد، أوليس الفقهاء أسّسوا لنا فقهاً غير موجود في الكتاب والسنة". حبذا لو بيّنتم المحذور في تأسيس فقه جديد، ومدى صحّة كلام ذلك البعض أو سقمه.
والجواب:
☆ في بداية الأمر لا بدّ من توضيح المقصود من قولهم: (يلزم تأسيس فقه جديد)، وكيف كان ذلك تالياً فاسداً يؤدي إلى فساد ملزومه؟ فنقول: إنّ المقصود من هذه القاعدة (اللازم الباطل): أنّ التزام الفقيه بنظريّةٍ تجرُّهُ -شاء أو أبى- إلى مجموعةٍ من الالتزامات يعدُّ تبنّيها خروجاً عن المسار العام للارتكازات الثابتة في الشريعة، يُسمّى عندهم ب(تأسيس فقه جديد). أو فقل: هو الإلتزام بما يؤدّي إلى تحليل ما حرّم الله، وتحريم ما أحلّه، في ظاهرةٍ تكون على خلاف المرتكز بين المتشرّعة والمتديّنين. ومعالم هذا التعريف تتضح مما يلي:
¤ أولاً: إنّ الالتزام الذي يؤدّي إلى ما ذُكِر أعمّ من أن يكون:
• منهجاً في عمليّة الاستنباط؛ كما لو فرضنا أنّ الفقيه في منهجه الاستنباطي التزم بخصوص ما يفيد القطع بالحكم الشرعي، دون ما يفيد الظنّ وإنْ قام الدليل على اعتباره، فإنّه لو اقتصر على القطعيّات من الضرورة الدينية، ونصوص الكتاب والأخبار المتواترة، والمستقلّات والملازمات العقلية، لاستنبط لنا شريعةً ممسوخةً يخرج بها عن زيّ المتشرعة؛ لأنّها لا تفي إلا باستنباط القليل القليل من الأحكام، وهو لا يسمن ولا يغني من جوع في شريعة يقال في حقّها: (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم حتى أرش الخدش). وهذا الالتزام بهذا المنهج يؤدّي إلى تأسيس فقه جديد، بل يهدم أساس الفقه والشريعة.
• تفسيراً لظاهرةٍ أو موضوع؛ ومن الأمثلة المتداولة عندهم وتصلح مثالاً لما نحن فيه قولهم: إنّه لو فسّرنا الضرر في موضوع قاعدة (لا ضرر) بالضرر غير المتدارك، بدعوى إنّ الضرر المتدارك لا يكون ضرراً حقيقة، فالمنفي بالقاعدة حينئذ ينحصر بغير المتدارك. ويترتّب على هذا التفسير أنْ يلتزم صاحبه بأنّ كلّ ضررٍ في الخارج ليس مما حكم الشارع بتداركه بأدلّةٍ خاصة يلزم نفيه تشريعاً بقاعدة (لا ضرر)؛ فلو تضرّر تاجر باستيراد تاجر آخر أموالاً كثيرةً، فبما أنّه غير محكومٍ بالتدارك وضعاً أو تكليفاً بدليل خاص، وجب تداركه بمقتضى القاعدة، وهكذا. والالتزام بذلك تأسيس لفقه جديد، لخروج القول بالضمان في أمثاله عن المسار العام للمرتكزات الشرعية في موارد تلك الأضرار.
• نفياً لمتعارفٍ؛ كما لو بُني على الاقتصار في حكم كلّ واحدٍ من النجاسات على متابعة النص الوارد فيها بالخصوص، وعدم التخطي عن مورده؛ وذلك من خلال نفي ما يعرف بينهم بمناسبات الحكم والموضوع، فإنّ ذلك يؤدّي إلى تخصيص النجاسات بلحاظ ذاتها وما يلاقيها، فيحكم بأنّ نجاسةً ما لو لاقت ثوباً نجّسته، ولو لاقت جسماً لا تنجسه مثلا، إلى غير ذلك مِمّا ينافي الارتكازات عند المتديّنين ولو في غير موارد النجاسة والطهارة، وهذا معناه تأسيس فقه جديد لا يعرفه المتشرعة.
• التزاماً بحكم؛ كما ذكروا في المكاسب من أنّه لو التزمنا بإفادة المعاطاة للإباحة للزم الالتزام بأمور مخالفة للقواعد، كتعلّق الخمس والزكاة بما في يد أحد المتعاطيين مع أنّه ليس مالكاً، وغير ذلك من التوالي العشرة التي ذكروها في محلّه.
• إلى غير ذلك من العناوين المتعددة التي تعرف بالتتبّع والتدبّر.
¤ ثانياً: إنّ بطلان الملزوم لهذا التالي الفاسد (تأسيس فقه جديد) لا يختصّ بما لو التفت القائل به للملازمة، كما يدلّ على ذلك قولنا في التعريف: (شاء أو أبى). وعليه فالفقيه الذي يلتزم بنظريّةٍ لا يكون ملتفتاً إلى تواليها الفاسدة التي يعدّ الالتزام بها خروجاً عن المسار العام المرتكز، يكون ذلك مبطلاً لما التزم به، وإن لم يلتفت إلى التوالي. وليس ذلك إلا لأنّ استلزام بطلان التالي لبطلان المقدّم من الأمور الواقعية لا العلمية الاستحضاريّة.
¤ ثالثاً: لا نعني من هذه القاعدة أنّه كلّما ترتّب تالٍ فاسد على الاعتقاد بشيء، يكون ذلك تأسيساً لفقه جديد، وإلا لكان كلّ فقيه عند فقيه آخر مؤسّساً لفقه جديد؛ لعدم خلوّ مشتغلٍ بالفقه عن تالٍ من التوالي الفاسدة، وإنّما المقصود أنْ تصل التوالي الفاسدة إلى حدٍّ تشكّل ظاهرةً يخرج بها الفقيه عن المسار العام المرتكز.
تعليقات
إرسال تعليق