حول مسألة جواز التعبّد بالمذاهب المختلفة
![]() |
الشيخ مازن المطوري |
في النصف الثاني من القرن العشرين وتحديداً في العام (1959م) أصدرت مشيخة الأزهر فتوى تنص على جواز التعبد بالمذهب الجعفري الاثني عشري، وقد اُعتبرت تلك الفتوى أول اعتراف رسمي بمذهب الشيعة الإمامية بما يعبر عنه من مذهب فقهي تمثله شريحة كبيرة من المسلمين.
وأياً ما كان موقفنا وتحليلنا لتلك الفتوى وظروفها وقيمتها الدينية والسياسية ودلالتها، فلا يعنينا فعلاً التوقف عند كل ذلك، وإنما نريد في هذه العجالة التي نكتبها في التّرحال التوقّف عند كلام لبعض المعاصرين ممن ينتمي لمذهب الإمامية تم تداوله في الفترة الأخيرة، أكد فيه على جواز التعبّد بسائر المذاهب الفقهية الأخرى (السنية)!
وفي هذا الصدد وحتى لا نستغرق في المماحكات والتهريج المنتشر هنا وهناك، يمكننا أن نطرح عدة احتمالات في المراد من جواز التعبّد في تلك الدعوى:
الاحتمال الأول: أن يراد من جواز التعبّد ما يساوي ويعادل تعدد الحق وتوزعه على مختلف المذاهب الفقهية ذات الأسس والأصول الاعتقادية المختلفة، فحيث أن الحق موزّع على جميع تلك المذاهب فمن الطبيعي أن يكون العمل بكل واحد منها معبّراً عن الالتزام بمقررات مذاهب الحق والأخذ بالصواب، لأن الحق ليس حكراً على مذهب معين أو طائفة بعينها، وإنما وفق هذا الاحتمال يكون الحق موزّعاً بالسوية على الجميع.
وهذا المعنى إن كان هو المقصود بالدعوى أعلاه ليس جديداً، إذ تم طرحه سابقاً من قبل القسّ الانجليكاني جون هيك في كتاب فلسفة الدين وأخذه بعض الكتاب الشرقيين وروّج له في صراطهاى مستقيم (الصراطات المستقيمة) ببيان أوسع وجذّاب ومُدعّم بفهم لبعض النصوص الروائية وكذا نصوص مستقاة من حقل العرفان النظري وأشعار جلال الدين الرومي.
لقد استند القائلون بهذه الفكرة المعروفة بالتعددية الدينية (المعرفية) إلى جملة من المرتكزات المعرفية (الابستمولوجية) المستعارة من نظرية عمانوئل كانط في التفرقة بين الشئ في نفسه والشئ كما يبدو لنا (الظاهرة والمظهر)، وكذلك إلى مرتكزات لاهوتية تنتمي لبحث العدل الإلهي، لأجل المصير إلى تلك النتيجة في سبيل معالجة إشكالية الخلاص، الإشكالية المعروفة المتداولة في حقلي فلسفة الدين وعلم الكلام.
وفي الواقع لا يمكننا قبول هذه المقاربة للمسألة.. والمرتكزات المعرفية واللاهوتية التي استند إليها أصحاب التعددية الدينية المعرفية والصراطات المستقيمة بدورها ليست مقبولة وترد عليها مجموعة من الإشكاليات والملاحظات المذكورة في مظانّها. حيث تفيدنا مجموعة تلك الملاحظات أن كل تلك المرتكزات لا تصلح لإثبات تعدد وتوزّع الحق، وليست ناجعة في حلّ إشكالية الخلاص، ولا توفير الثمرة المرجوة في معالجتها، أعني قبول الآخر والتعايش السلمي بين أتباع الأديان والمذاهب المختلفة، بل صار أصحاب الصراطات المستقيمة فرقة جديدة تضاف إلى قائمة الفرق ودخلت في صراع معها!
وعلى أساس ذلك فالعقائد المختلفة لا يمكن أن تكون جميعها محقة وصائبة، وإنما الاختلاف والتناقض في العقائد يستلزم أن تكون إحداها صائبة محقّة والأخريات باطلة وغير محقّة، إذ الحق لا يتعدد ولا يمكن أن يتعدد لا على مستوى الثبوت والواقع ولا على مستوى الاثبات والأدلة.
وقد سبق أن توقفنا عند هذا الاتجاه بالدراسة والتحليل والنقد لمرتكزاته المعرفية واللاهوتية وبيان قصورها في دراسة مستقلة منشورة [نشرت في مجلة البرهان في عددها الخاص بالتعددية الدينية]. فالدين الحق والمذهب الحق واحد لا يتعدد واقعاً وإن ادعى الجميع أنهم أهل الحقّ.
الاحتمال الثاني: أن يراد بجواز التعبّد تلمّس معذّرية للعامل بالفقه والمذاهب التي يعتقد بها صاحبها وإن لم تكن حقاً وصواباً. فسائر الاتجاهات والمذاهب الفقهية حيث إن أصحابها يعتقدون أنها الحق ويجزمون بذلك ويلتزمون بمقرّراتها العملية، فإنهم معذورون من هذه الجهة يوم القيامة فيما يخص مسألة الحساب وفيما يخص إجزاء الأعمال التي يأتون بها اعتقاداً عن الواقع، وإن لم تكن مصيبة للواقع ومطابقة له.
والمسألة وفق هذا الاحتمال تنتمي لإشكالية الخلاص المعروفة (الفرقة الناجية) التي تطرح عليها إشكاليات معرفية ولاهوتية تحتاج للمقاربة والحل.
وقد يؤيد هذا الاحتمال ويدعم بما ذكره الفقهاء في كتبهم الفقهية الفتوائية من أن غير الشيعي إذا تشيّع لا تجب عليه اعادة أعماله العبادية كالصلاة والصوم وغيرها التي أدّاها سابقاً وفق مذهبه، باستثناء بعض الموارد، كالزكاة مثلاً.
وهذا الاحتمال وإن كان مقبولاً إجمالاً غير أنه ليس بجديد من جهة، ومعالجة إشكالية الخلاص وتلمّس المعذّرية لا تكون بطريقة إصدار فتوى بجواز التعبّد من جهة ثانية، وإنما تعالج تلك الإشكالية بطريقة أخرى حيث يتم التفريق بين صحة المنهج / المذهب أو بطلانه من أصل وبين الخلاص والنجاة والمعذرية أو الإجزاء من جهة ثانية، بمعونة مدركات العقل العملي الواضحة كقبح العقاب بلا بيان فضلاً عن الأدلة الخاصة على الإجزاء في مسائل معينة. وما شاكل.
وعلى أساس ذلك فمعذرية القاطع بفقه معين والعامل به أو الجاهل القاصر لا تسوق لنا القفز والانتقال من المعذرية والإجزاء إلى إعطاء صكّ بجواز التعبّد بأصل الطرق والمذاهب الفقهية المختلفة، ففرق كبير بين أن يقال هناك إجزاء في الأعمال الفقهية المعمول بها من قبل القاطع أو الجاهل المقصر والتمسك بقواعد العقل العملي أو الأدلة الخاصة، وبين القول بجواز التعبّد ابتداءً بأصل المذاهب المختلفة، إذ لا ملازمة بين الأمرين، أي بين الإجزاء بالنسبة لبعض الأعمال والمعذّرية من جهة وبين جواز التعبّد ابتداءً بالمذاهب المختلفة، وكأن صاحب الدعوى قد خلط بين الأمرين واشتبه الأمر عليه، والنكتة في ذلك أن جواز التعبّد بمذهب معين أو دين معيّن يحتاج إلى دليل خاص يجعل جواز التعبد أو وجوبه على ذلك المذهب، ومثل هذا الأمر فضلاً عن فقدانه لا تتكفل المعذرية والإجزاء بإثباته، بينما نجد الدليل الإسلامي القطعي الواضح يدل على وجوب الأخذ بطريقة معينة والتعبد بها دون سواها، وهي طريقة الثقلين، حيث رتّب الهدى على التمسك بهما.
نعم؛ لما ينجرف المسلم باتجاه آخر غير الثقلين ويُطرح البحث حول مصيره وعذره يأتي البيان المتقدم في التفريق بين القاصر والمقصّر من جهة والقاطع والاستناد إلى الحكم العقلي أو العقلائي في قبح العقاب بلا بيان، حيث يجعل العذر للقاصر ويُعطى الأمان من العقوبة، فضلاً عن الأدلة الخاصة على إجزاء بعض الأعمال والعبادات كل بحسب دليله.
فتكون النتيجة أن المنهج الحق والمذهب الحق وإن كان واحداً ومنحصراً (أيا كان صاحبه) إلا أن النجاة والخلاص ليست منحصرة بل أوسع دائرة إذ هناك من غير المنتمين للحق ولمذهبه يشملهم الخلاص والمعذرية والإجزاء، وإن كانت مذاهبهم باطلة.
وعلى أية حال، فمعالجة المسألة تكون بواسطة إعطاء مقاربة لإشكالية الخلاص بعد الإيمان بانحصار الحق والتعبّد، ومثل تلك المقاربة لا تقتضي ولا تكون بواسطة إعطاء فتوى بجواز التعبد بجميع المذاهب. بل إن الانتقال من الحديث عن تلمس العذر والإجزاء في بعض الأعمال إلى القول بجواز التعبد والعمل بسائر المذاهب، انتقال يفتقد للدليل وهو غير منطقي، فنحن مع إيماننا بانحصار الحق ومورد التعبّد ولكننا في ذات الوقت نقول بمعذرية أصناف من الناس وبإجزاء كثير من أعمالهم حسب دليلها الخاص. [لاحظ مقالة منشورة بعنوان مقاربة إسلامية لإشكالية الخلاص].
وهذا المعنى ليس بجديد إذ طرحه علماء أصول الفقه في بحث القطع وفي أبحاث أخرى، وكذلك طرحه علماء الكلام (العقيدة) في بحث العدل الإلهي والجزاء.
أما ما يستشهد به من فتاوى الفقهاء فيمكن الجواب عنه نقضاً بتصحيح عقد النكاح عند غير المسلمين وكثير من معاملاتهم وعقودهم وترتيب الأثر عليها، وحَلاً بما تقدم من الجواب عن أصل الاحتمال الثاني.
الاحتمال الثالث: أن يكون المراد من جواز التعبّد الاعتراف بالآخر المختلف والتعايش معه سياسياً واجتماعياً وقبوله على ما هو عليه لأجل بناء مدينة حياة الإنسان والأوطان تحت مظلّة الحقوق والواجبات المشتركة.
وهذا المعنى صحيح في نفسه، ولكن ينبغي أن نلاحظ:
1- إن الاعتراف بالآخر في إطار بناء الأوطان ومدينة حياة الإنسان لا يتطلب ولا يكون عبر فتوى اجتهادية تقول بجواز التعبد بسائر المذاهب، وإنما يقتضي ذلك الذهاب صوب مقررات العقل العملي القاضي بوجوب احترام الآخر المختلف والتعامل معه كواقع بالقسط والعدل والحسنى والإنصاف والصدق وأداء الأمانة، فالتعايش والاعتراف بالآخر يقتضي ممارسة التعايش واقعاً ولا يتطلب إعطاء رأي اجتهادي بجواز التعبد وجعله في مصاف الحق معرفياً ودينياً.
وببيان آخر: إن احترام الآخر في خياراته المعرفية وما ينتمي إليه من منظومة عقائد وفقه وطريقة في الحياة لا يعني إقراره معرفياً بصحّة وصواب ما يعتقد به، ووجوب التعايش مع الجميع بالحسنى لا يعني أن الجميع متساوون من حيث التبرير والتقييم بحسب النظر والدليل، وإنما هو إجراءٌ عملي فقط وفقط.
على أن التعايش مع سائر فرق المسلمين بالحسنى أمر أكدته نصوص أهل البيت عليهم السلام التي أكدت على أداء الأمانة والصدق وحضور مجالسهم وتشييع جنائزهم والتواصل بالحسنى والأخلاق الإسلامية، لأن تحفظك على مواقف الآخرين الفكرية وما اختاروه من طريق لا يعني مقاطعتهم، سيما وأن الكل مسلمون تجمعهم روابط الإسلام، وهم يدٌ واحدة على من سواهم ممن يتربّص بهم الدوائر.
2 - إن إعطاء رأي اجتهادي بجواز التعبد بسائر المذاهب الإسلامية فضلاً عن غيرها من الملل والنحل لا معنى له، لأنها مسألة اعتقادية بالصميم وليست مما يرجع فيه سائر الناس إلى الفقيه وتقليده فيما يقوله وفق النظام المعمول به في مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
3 - إن أتباع ومقلّدي صاحب مثل هذه الدعوى لا يلتزمون بها لأنهم معتقدون بأصل الطريقة التي ينتمي إليها صاحب الفتيا، وملتزمون بمعطيات البحث الفقهي للفقيه الذي يرجعون إليه في إطار تلك الطريقة التي ينتمي إليها.
4 - إن الآخر المختلف مذهبياً لا يرتب أثراً على مثل هذه الدعوى لأنه يلتزم بطريقته ومذهبه على أساس ما يحسبه من أدلة قامت على صحة مذهبه واقتنع به وليس استناداً لفتاوى الآخرين.
وبعبارة ثانية: إن صاحب الفتوى في هذا المجال لا ولاية له على أتباع المذاهب الأخرى لإيمانهم أنها طريقة النبي صلى الله عليه وآله وأنها الإسلام المرضي وفق دليلهم في علم الكلام، والشيعي الإمامي لا يقلد الفقيه في جواز التعبد بمذهب أهل البيت عليهم السلام وأصل فروع الدين وعقائد الإسلام، وإنما يتعبّد بمذهب العترة الطاهرة على أساس الدليل المقام في علم الكلام، وغاية ما يأخذه من الفقهاء هو تفاصيل الفروع الفقهية التي لا يستطيع اتخاذ موقف منها.
والنتيجة المتحصلة: إن مقولة جواز التعبّد بسائر المذاهب المختلفة فاقدة للمضمون والمعنى الصحيح ولا محصّل لها.
أحسنت وأجدت الرد يا فضيلة الشيخ
ردحذفأزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذف