أسطورتان عن علي شريعتي

الأستاذ علي زكريا

لأن المشهد الثقافي عندنا متأخرٌ، فقد تعرّف على علي شريعتي متأخرًا، ورافق تعرّفه على شريعتي انحسار الظروف التي كانت محيطة به في زمانه، فَلَمْ يعد الفكر الماركسي منتشرًا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وهيمنة الليبرالية، ولَمْ يعد الصراع الديني الذي كان يقاتل على جبهتين: الجبهة الشرقية (الشيوعية) والجبهة الغربية (الرأسمالية) يخوض هذه المعركة لاثبات وجوده، إنما باتت اليوم معاركه داخليةً إما بين الطوائف، أو ما بين الأصالة والحداثة التي تحولت لبناء دين يقوم على أسس الليبرالية المعاصرة بدلاً من دين يقوم على أسس ماركسية (نسبة لأفكار كارل ماركس عن الصراع الطبقي) كما كان يُطرح على الساحة في حقبة شريعتي.
من هنا، كانت الأفكار التي يطرحها شريعتي مغريةً لشباب اليوم، فاستدعوها مع كل ما فيها، فهي مملوءة بالشعارات المغرية، ومبنية على نقدٍ حاد لرجال الدين، وتُحارب طبقات المتغوّلين في المجتمع، وتؤسس لدينٍ مبني على نظرة تدّعي أنها تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية (مستندة على رؤية ماركسية) وهو ما يجد صدى عند من يعاني من شظف العيش وتمزقه مخالب الفساد وتطحنه الليبرالية الرأسمالية بمطارقها الجشعة، وتؤلمه السياسة الاستغلالية المتوحشة، خصوصًا وأنّ الأفكار الماركسية اليوم باتت منحسرة في وجهها الحقيقي ولم يعد الانشغال بالرد عليها كأولوية مطروحًا على الساحة فصارت تتسرب بلباس الدين والتنوير دون أن يعي الناس أن هدفها الأساس هو إزاحة الدين لأنّه سببٌ في صنع الطبقات البرجوازية، وأحد أضلاع ثالوث السيطرة المسبب للفساد والخنوع للظلم (المال / السلطة / الدين).
ثم إن كتب شريعتي التي كتبت بالفارسية في الأصل (كما هي محاضراته) صنعت برزخًا بينه وبين الجمهور هنا، فهم يتعرفون عليه من خلال ما يتم ترجمته للعربية ولا يتعرفون عليه كما هو في أصله، وعليه فإنهم يأخذون كل ما يقدمه المترجمون له (أو عنه) أخذ المسلمات، وهؤلاء يهمهم الانتشار والربح كدور نشر، ناهيك عن المتبنين لأفكاره، وغير أن كثير مروجي فكره لا يعتبرون شريعتي إلا جسرًا يمهد الطريق لهم عند المتلقين لتبني أفكارهم الحداثوية، فهم يضخّمونه ليستغلوه، ولهذا السبب بدأت تكثر الأساطير عنه؛ وهنا سأتحدث عن اسطورتين لا أكثر، وأترك الباقي لمناسبات أخرى.
الأسطورة الأولى: الدرجة الأكاديمية:
يتم التسويق لعلي شريعتي على أنه مفكر ومنظّر ثوري إسلامي، وأكاديمي درس دراساته العليا في فرنسا * زمن فلاسفتها المعاصرين وهيجانها الفكري كسارتر وبوفوار وماسينيون، وعلى الرغم من ذلك فإن كتاباته تخلو من أي منهجية واضحة - وهذا يخالف النهج الأكاديمي - وكثيرًا ما تسقط في وحل الرطانة، حيث لاشيء سوى الانتقاد المستمر كنوعٍ من أنواع إزالة التوتر تجاه وجود الفساد الذي يئن منه المجتمع دون أن يثور عليه والقبضة الحديدية للسلطة، ويميزها موقف سلبي تجاه رجال الدين لا يصدر من متورّع في دينه يخشى تعميم الاتهام لكيلا يصيب الناس بالباطل!
ويتم تقديم شريعتي في العادة على أنه متخصصٌ في علم الاجتماع تارة، وعلم الاجتماع الديني تارة أخرى، وأخرى في علم الأديان، وأحيانًا هو يقدم نفسه بإحدى هذه الصفات في بعض كتبه، إلا أن الحقيقة هي أن علي شريعتي قد تخرج سنة ١٩٥٨م من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتخصص (الأدب الفارسي) وفي سنة ١٩٦٤ ناقش أطروحته التي كانت في تخصص التاريخ وعبارة عن ترجمة وتحقيق كتاب (فضائل بلخ) لصفيّ الدين (أحمد بن سهل) البلخي المتوفى ٣٤٠ هـ (1).
وهنا يضيف عبد الجبار الرفاعي: ".. راجعت كل الكتابات التي دونها باحثون إيرانيون متخصصون عنه [شريعتي]، واعتمدوا على شهادات معاصرين له في الجامعة، وعلى وثائقه الشخصية، كذلك اطلّعت أنا على مصوّرات وثائق خاصّة به، فلم أعثر فيها على ما يشير إلى أنه متخصص في علم الاجتماع والأديان"(2).
بل ويذهب إحسان نراقي** إلى أبعد من ذلك: ".. حيث لم يكتف نراقي بعدم الاعتراف بشريعتي كعالم اجتماع فحسب، بل أكد أيضًا أنه مجرد شخص ضحل التعليم يكتب ويلقي خطبًا لتضليل الشباب، كما وصف أيضًا ادعاء شريعتي بمعرفته الشخصية لجان بول سارتر ولويس ماسينيون بأنها خدعة، مشيرًا إلى أنه قد تحقق من كل هذه الادعاءات في باريس وتبيّن أنها مجرد هراء"(3).
بل إن شريعتي لم يكن في دراسته الأكاديمية متخصصًا في علم الاجتماع ولا الأديان ولا حتى تاريخ الإسلام، بل كانت ترجمته للفرنسية وتحقيقه لفضائل بلخ هو لفصل واحد من هذا الكتاب المخطوط والذي يتعلق بوصف مدينة بلخ وليس كتابًا أدبيًا أو فلسفيًا ذو قيمة، والذي قام عبدالحي حبيبى بعد الثورة بتحقيقه كاملاً ونشره في عمل أكمل مما فعله شريعتي في رسالته! (4)
الأسطورة الثانية:  "الشهيد" علي شريعتي:
إن لقب الشهادة يضفي شيئًا من القداسة والهيبة على صاحبه، ففي المرتكز الإسلامي إن الشهيد بذل نفسه من أجل الله سبحانه وتعالى، وعليه فإن مسألة خلوده وتقديره واحترامه نابعة من فضل المقام الذي وصل له بشهادته، وبالثناء الإلهي والجزاء الرباني لأصحاب هذا المقام.
ولهذا فإن لقب الشهيد من ناحية دينية يعطي لصاحبه حصانة بالإضافة للمكانة، وعليه، إن كان لقب "الدكتور" يضفي هيبة أكاديمية لصاحبه فإن إقرانه بلقب "الشهيد" يعطيه مكانة تجعله مترفعًا فيها عن النقد، ومتجاوزًا بها كل ما لمنتقديه من مقام علمي طالما أنهم لم يقرنوا عملهم بالشهادة التي هي قرة عين المجاهدين دينيًا. فمن له الجرأة في نقد من بذل نفسه لأجل مقارعة الظلم والدفاع عن بيضة الدين بعد أن طٙلب العلم سنوات حياته؟
هذا السيف الذي يتم استخدامه لتقزيم كل منتقدي فكر شريعتي وأطروحاته، في الواقع ليس أكثر من زعم، لا يختلف عن الزعم حول شهادات شريعتي الأكاديمية، وليس سوى شهرة ليس لها من الواقع شيء، وربّ مشهورٍ لا أصل له.
في سيرة حياة علي شريعتي السياسية التي كتبها "علي رٙهِنما" يذكر نقلاً عن مذكرات زوجة شريعتي، شريعت رضوى الواردة في كتاب طرحی از یک زندگی (ص 243- 244 ): ".. في الثامنة صباحًا جاء علي وناهد لأخذ أختهما نسرين. سمعت نسرين الجرس فنزلت إلى الطابق الأرضي لفتح الباب، فوجدت علي شريعتي مستلقيًا على ظهره على الأرض عند باب غرفته. كانت الضغوط النفسية التي مرّ بها شريعتي خلال الشهر الأخير قد فعلت فعلها فيه، فتوّقف قلبه عن النبض. يقول تقرير الطبيب الشرعي الصادر بتاريخ ٢١ حزيران / يونيو ١٩٧٧م إنّ سبب الوفاة المفاجئة كانت «فشلاً قلبيًا»"(5)
ويذكر صديق علي شريعتي المقرب، وهو الدكتور عبد الكريم سروش، في سيرة حياة شريعتي: "‏.. كل ذلك جعل قلبه ضحية ضغوط وتوترات حادة، فكان من الممكن إصابته بالسكتة القلبية. وقتئذٍ حدثت وفاته المؤسفة. وكما ورد في تقرير مستشفى جامعة ساوث همبتن: فإنّه لم يُعثر على دليل يشير إلى قتله [شريعتي]. وعليه يمكن اعتبار وفاته طبيعية" (6)
نهاية الاسطورة:
إن أكثر ما يستخدم لتمرير أفكار شريعتي هي درجته الأكاديمية، وشهادته كثمرة لجهاده! ليوضع على قدم المساواة مع الشيخ مرتضى مطهري ورجال ومفكري ومجاهدي تلك الحقبة حتى يحشروه ضمن الروّاد ويصوروه كأحد الفاعلين الأساسيين للثورة في إيران، وهذا ما ثبت بطلانه، ورغم ذلك فإن صنع "الأسطورة" من علي شريعتي لن يتوقف طالما أن المتكسبون والمتدرعون باسمه وأفكاره لا يزالون يعتمدون في الترويج له على هذه الألقاب والدعايات غير الحقيقية.
____________________
*
إن أثر الفلسفة الفرنسية المعاصرة في مثل هذه الشعارات الثورية المستندة على بلاغة الخطاب وروعة بيان الكلمات واضحة جدًا، وقد ناقش هذه القضية الكثير من المفكرين والأكاديميين، منهم على سبيل المثال سودير هازاريزنغ، أستاذ العلوم السياسية بجامعة أوكسفورد، وغيره. وعادة ما يكون سحر البيان سيما إن لامس هموم البشر وتحسس حاجاتهم موهمًا إياهم بأن الكلمة البليغة تكفي لتشخيص المشكلة ووضع الحلول، مغنيًا عن النظر في حقيقة البيان وما فيه وهو ما تراه جليًا في كتابات شريعتي وغيره من حيث استغلاله لشعارات العدالة الاجتماعية ومقاومة الاستعمار والتحرر وغيرها في تمرير رؤيته الماركسية للدين دون أن ينتبه لها الكثير من المتدينين!
** عالم اجتماع إيراني معروف، توفى ٢٠١٢ م عن ٨٦ سنة، سليل أسرة النراقي العلمائية الدينية ومع هذا كان ليبراليًا، تزعم قسم الدراسات الاجتماعية في جامعة طهران، درس علم الاجتماع في جامعة جنيف وحصل على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون باريس / فرنسا، وهي نفس الجامعة التي اخذ فيها الدكتوراه علي شريعتي.
(1) علي رهنما، علي شريعتي: سيرة سياسية، ترجمة أحمد حسن المعيني، ص 280 وما بعدها، وقد أشار رهمنا إلى أنّ البروفسور گلبير لازار قد إقترح على شريعتي أن يعمل على "تحقيق "فضائل بلخ" لصفي الدين البلخي والتعليق عليه وترجمته إلى الفرنسية، وقد كان هذا النوع من المشاريع البحثيّة معروفاً في إطروحات الدكتوراه الفرنسيّة" ويستطرد رهمنا  في صفحة 282 قائلاً: "كتب شريعتي أطروحته في كلية العلوم الإنسانية في جامعة السوربون، وكان من الطبيعي أن تصد الإطروحة عن الكليّة نفسها، غير أنّ شهادة شريعتي الرسميّة (مثلها مثل جميع الشهادات الصادرة آنذاك) لا تحملُ اسم برنامج محدّد يكتبُ تحته عنوان الأطروحة أو المجال الذي كُتبت فيه، ولكن جاء فيها العنوان العريض: دكتوراه جامعة باريس، وتحته بخطّ اليد "تاريخ الإسلام في القرون الوسطى"، ثم "كُتب الفضائل الفارسيّة". يبدو للقارئ إذاً أن المجال الذي درسهُ شريعتي هو تاريخ الإسلام في القرون الوسطى، ربما لأنّ كتاب فضائل بلخ كان وثيقة تاريخيّة عن الحياة في بلخ في القرون الوسطى".   
(2) عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي، ص ١٠١، هامش رقم ٣. (3) مصطفى خلجي، الصحافي الإيراني عن إحسان نراقي، عالم الاجتماع الإيراني، جريدة الشرق الأوسط العدد ١٢٤٣٧. http://archive.aawsat.com/details.asp…


(4)
راجع : خاطرات جلال متينى، دكتر على شريعتى در دانشگاه مشهد (فردوسي)، ص ٣١-٣١
. (5)علي رهنما، علي شريعتي: سيرة سياسية، ترجمة أحمد حسن المعيني، ص ٨٠٤. وفي هامش الصفحة رقم التقرير الرسمي للطبيب الشرعي. (6) عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي، هامش ص ١٠٢ - ١٠٣، نقلاً عن عبد الكريم سروش، از شريعتى، تهران: مؤسسه فرهنگي صراط، ص ٢٩-٣٠

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

كلامٌ حول حديث «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»