علم الغيب في القرآن الكريم
![]() |
الأستاذ علي بن سلمان العجمي |
طالعنا البعضُ بمنشورٍ فيه استنكارٌ للقولِ بأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) "علِمَ بليلةِ قَتلِ ابن عمّه [أمير المؤمنين عليه السلام] وأنّه أعلم علياً عليه السلام بها" معللاً السبب بمعارضة هذا الإنباء لصريح القرآن الكريم قائلاً: "حين عرضت هذا الخبر الذي يُرسل ارسال المسلمات على عقلي ، وجدت انه يناقض صريح القرآن "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وماتدري نفس بأي أرض تموت"، فماذا أصدق.. قرآن ربي ام قول الخطيب؟"
ولو أنّ الرجل تعلّم قبل أن يتكلّم، وقرأ آيات الذكر الحكيم قراءةً غير مجتزئة، لخلصَ إلى عدم وجود التعارض بين القولين، بصريح آيات القرآن الكريم.
وبيانُ ذلك: أنّ الله عزوجلّ ذكر في آياته أنّ علم الغيب من مختصاته، قال تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }(1)، إلّا أنّهُ أوضح في آيات كثيرةٍ أُخرى أنّه أَعلَم بعض أوليائه ببعض الغيب، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا }(2)، وقال أيضاً: { ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ }(3)، وقال أيضاً: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ }(4)، وقال أيضاً: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَقَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (5)، وغيرها من الشواهد، وهي كافيةٍ في بيان أنّ الله قد يطلعُ بعض أوليائه على بعض الغيب بإعلام منه.
وقد جرت آيات القرآن الكريم على هذه الحقيقة القرآنية، فأطلعتنا على شواهد قرآنية لهذه الإنباءات الغيبيّة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1- إنباء النبيّ صلى الله عليه وآله بغلبة الروم، قال تعالى : {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } (الروم: 2-3) وبفتح مكّة، قال تعالى: { لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا }(6)، وإنباؤهُ بإذاعة بعض أزواجه لما سرّها به قال تعالى: { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}(7).
وعلاوة على هذه الشواهد فإنّ إنباء النبيّ صلى الله عليه وآله بحوادث الأمم السابقة والأنبياء السابقين وإنباؤهُ بحوادث آخر الزمان في القرآن الكريم دليلٌ على تعليم الله له بعض الغيب.
2- إنباءُ الخضر (عليه السلام) ببعض الغيبيات، قال تعالى: {قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا } (8).
أقول: وعلاوةً على الغيبيات التي أنبأ الخضر عليه السلام بها نبيّ الله موسى عليه السلام، فإنّهُ أنبأ بولادة عوضٍ للأبوين المؤمنين عن الغلام الذي قتلهُ الخضر، وهو إنباءٌ أعظم من الإنباء بما في الأرحام.
3- إنباءُ النبي يوسف عليه السلام بالطعام الذي سيأتي صاحبيه، قال تعالى: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي }(9).
أقول: وفي الآية دلالةٌ واضحةٌ على أنّ هذا الغيب هو من الغيب الذي أطلع الله نبيّه يوسف عليه السلام عليه، وأنّهُ مُكّن منإنبائهم بما يأكلونه قبل أوانه.
4- إنباءُ النبيّ يوسف عليه السلام بعودة البصر إلى أبيه بمجرد إلقاء قميصه عليه، {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } (10) وهو الأمرُ الذي تحققّ لاحقا، قال تعالى: { فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}(11).
5- إنباء النبي عيسى عليه السلام لقوه {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(12).
6- إنباءُ الأنبياء عليهم السلام بالعذاب الذي ينزل على أقوامهم، ومنه ما جاء على لسان نبيّ الله نوح عليه السلام: { قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }(13)، وهو مصداقٌ لما كشفه الله له من غيب حول غرقهم، قال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} (14). وكذلك ما جاء على لسان النبيّ صالح عليه السلام: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} (15)، وهو إنباءٌ غيبيٌ تحقّق، قال تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا
فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (16)، ونظائرها منالآيات الكريمة.
وزبدةُ الكلام: أنّ من يطالعُ آيات القرآن الكريم مطالعة إجمالية يتحصّلُ له اليقين بأنّ الله قد أطلع أوليائه على كثيرٍ من الأمور الغيبيّة، فهل يصحُّ بعد هذا أن يتفذلك البعض ويُسقط فهمه غير السليم لظاهر بعض الآيات لينفي الأمر في الجملة ؟!
----------------------------
(1) سورة النمل: 65.
(2) سورة الجن: 26- 27.
(3) سورة آل عمران: 44.
(4) سورة يوسف: 102.
(5) سورة هود:49.
(6) سورة الفتح: 27.
(7) سورة التحريم: 3.
(8) سورة الكهف: 78-82.
(9) سورة يوسف: 37.
(10) سورة يوسف: 93.
(11) سورة يوسف: 96.
(12) سورة آل عمران: 49.
(13) سورة هود: 38-39.
(14) سورة هود: 37.
(15) سورة هود: 65
(16) سورة هود: 67
(15) سورة هود: 65
(16) سورة هود: 67
تعليقات
إرسال تعليق