جواب شبهة الشرور
السؤال الأول: هل يفعل الله القبيح؟
حتى نتمكن من دفع شبهة الشرور، ينبغي أولا أن نؤسس قاعدة في غاية الأهمية، هي: "الله لا يفعل القبيح"، فهذه القاعدة هي الأساس الذي سنعتمد عليه في دفع الشبهة.
فهل لهذه القاعدة أساس عقلي منطقي؟!
التبرير المنطقي لنفي فعل الله للقبائح:
لا ريب أن الله تعالى عالم بالقبيح والحسن؛ لأنه سبحانه وتعالى خلقنا وخلق عقولنا فهو يعلم بكل ما نعلم به، فإذا كنا نعلم بالقبيح والحسن فكيف لا يكون الله عالما بهما؟ فلا بدّ من أن يكون عالما بالقبيح والحسن ولا ريب أن الله غني عن فعل القبيح فينا؛ لأنه سبحانه خلقنا، فنحن بكل وجودنا نحتاج إليه، فكيف يكون سبحانه محتاجا إلى خلقه الذين يحتاجون إليه؟ وكيف يحتاج إلى أن يفعل فينا قبيحا من ظلم وخلف وعد وما شابه ذلك مع أنه لا يستفيد من ذلك شيئا؟! وهل يُعقل أن يستفيد الخالق من خلقه؟!
وإذا كان الله عالما بالقبيح، غنياً عنه، فهو أجلّ من أن يفعل القبيح مع أنه قادر على ذلك.
ولأوضح الأمر أكثر: لنفترض أن زيدًا من الناس يعلم بأن الكذب قبيح سيء ولنفترض أنه قادر على الصدق وقادر على الكذب على حد سواء، ولنفترض أن الكذب لن يقدّم له أي نفع وفائدة، وبالتالي لا يكون محتاجًا إلى أن يكذب، ومن هنا فهل هناك احتمال لئن يقوم زيد بالكذب؟
بالطبع لا!
وإذا كان هذا حال زيد فما بالك بخالق زيد الذي هو أكمل من زيد!!
فإن كان زيد لا يفعل القبيح عند استغنائه عنه فالله الذي هو أكمل من زيد أولى بأن لا يفعل القبيح عند استغنائه عنه.
وإذا كان الله غنيا عن خلقه فلا يمكن أن يصدر منه قبيح في حقهم سبحانه تعالى.
ومن هنا يتضح أن الله تعالى لا يفعل القبيح مطلقا.
وهذا توضيح لما أوجزه المتكلمون بقولهم: "واستغناؤه وعلمه يدلّان على انتفاء القبح عن أفعاله تعالى" (تجريد الاعتقاد).
السؤال الثاني: هل خلق الله الشر؟
من مشاكل إبهام الكلمات ما يقع كثيرا فيما يسمى ببحث الشرور،فيقال: "كيف يخلق الله الشرور وهو العادل الحكيم"؟
يجب أن نفرّق بين معنيين لكلمة "الشر":
المعنى الأول هو "القبح"، والمعنى الثاني هو "الضرر"
فعندما نقول: "الكذب شر والصدق خير"، فنحن لا نقصد بالشر هنا الضرر ولا نقصد بالخير النفع، بل نريد أن الكذب قبيح لا ينبغي أن يُفعَل والصدق حسن ينبغي أن يُفعَل، وعندما نقول "الصحة خير والمرض شر" فإننا نقصد أن الصحة نافعة والمرض مضر ومؤلم.
وبعد اتضاح المصطلح ينبغي أن نطرح سؤالًا مهمًا: هل الإضرار بالآخرين قبيح؟!
في الواقع لا يمكننا أن نجيب عن هذا السؤال بشكل مطلق بل لا بد من التفصيل؛ وذلك لأن الإضرار بالغير لا يقع على وجه واحد، بل يقع على وجوه متعددة ويختلف وحكمه باختلاف تلك الوجوه ولكن ما معنى هذا الكلام؟
يقع الإضرار على الوجوه التالية:
الوجه الأول: أن يقع الإضرار ظلمًا، ويتحقق ذلك عندما يكون الإضرار واقعًا بغير إذن المتضرر أو إذن من له الولاية عليه، فإذا لم يأذن المتضرر في الإضرار به كان الإضرار به ظلمًا قبيحًا.
مثلا: ضرب من لم يأذن في أن يُضرب، فهنا يكون الضرب ظلمًا؛ لأنه بلا حق.
تطعيم الطفل من دون إذن وليّه القائم بأموره.
الوجه الثاني: أن يقع الإضرار سفهًا وعبثًا، وذلك فيما لو أذن المتضرر بوقوع الضرر عليه لا لأجل منفعة ترجع إليه أو إلى من يهمه أمره ولا لأجل دفع ضرر عن نفسه، فهنا يكون الإضرار قبيحًا وإن لم يكن ظلمًا؛ لأنه سفه وعبث.
الوجه الثالث: أن يقع الإضرار عدلًا، ويتحقق ذلك عندما يكون الإضرار عقوبة على جريمة ارتكبها المتضرر، وهذا واضح في معاقبة المجرمين في شتى المجتمعات
الوجه الرابع: أن يقع الإضرار لأجل جلب مصلحة أو دفع مفسدة مع إذن المتضرر أو من له الولاية عليه، كما لو كان الإضرار لأجل معالجة الطفل المريض بإذن وليه، وكما في الإضرار الناشئ من التدريب على القتال لأجل تقوية المتدرب ونحو ذلك.
ولا يوجد وجه آخر يقع عليه الضرر، فالضرر إما ظلم أو عبث أو عدل أو صلاح، ولا يخرج عن أحد هذه الوجوه بحكم العقل.
وبعد هذا صار من المناسب أن نطرح السؤال بشكل واضح:
السؤال الأول: هل يفعل الله الشر بمعنى القبيح؟
الجواب: وفقًا لما تقدّم في السؤال الأول أن الله لا يفعل القبيح؛ لأنه سبحانه عالم بالقبيح وغني عنه، فلا يفعله سبحانه.
السؤال الثاني: هل يفعل الله الشر بمعنى الإضرار بخلقه؟
ونقول هنا: من الممكن أن يكون الله سبحانه خالقا للشر! أجل يمكن ذلك إذا كان ذلك عدلًا أو كان صلاحًا، ولا يمكن أن يخلق الله الشر إن كان ظلمًا أو عبثًا؛ لأن ذلك ينافي القاعدة العقلية التي أسسناها في الحلقة الأولى من أن الله لا يفعل القبيح.
توضيح ذلك: إن الله تعالى لما كان خالقًا للعباد كان سبحانه مالكًا لهم، فله سبحانه التصرف في عباده بمقتضى علمه بما يُصلحهم، ولا يكون في هذا أي ظلم؛ لأن له سبحانه وتعالى الولاية على خلقه؛ إذ هوالمالك لهم وحده بلا شريك ولا ند ولا منازع. ولهذا فلا يعقل أن يقع منه الظلم لخلقه وإن لم يُعجبهم ما فعله بهم! والله تعالى لمّا كان عالمًا بالحسن والقبيح غنيًا عنهما لم يُعقل أن يكون فعله عبثًا لقبحه وشناعته ولا سيما أنه العلي الأعلى جل وعز.
فنستنتج من ذلك أن الله من الممكن أن يخلق الشر (بمعنى الضرر) ولكن ذلك لا يقع على وجه قبيح، بل يقع على وجه حسن.
فمن الممكن أن يخلق الله الشر ليكون جزاء للمجرمين، فيقع ذلك عدلًا.
ويمكن أن يخلق الله الشرّ لمصلحة العباد، كما لو كان ذلك لأجل ابتلائهم واختبارهم.
ومن هنا نعلم أنه لا يوجد إشكال في أن يخلق الله الشرور والآلام والمصائب في هذا العالم؛ لأنه تعالى لا يفعل ذلك إلا على وجه حسن، فهو إما يفعل ذلك عدلًا أو صلاحًا.
تنبيه: ينبغي الالتفات إلى نقطة مهمة جدا توصلنا لها مما سبق، وهي أن من يَطرَح شبهة الشرور يقع في مغالطة المصادرة على المطلوب، وذلك لأنه عندما يطرح الشبهة يوحي بأن الشرور كلها قبيحة!
وكأنه يقول: إذا كان في العالم شر وقع بإرادة الله فهذا لا ينسجم مع كمال الله تعالى! فهو هنا يفترض ضمنًا أن كل شر قبيح، ومن خلال ذلك حكم بأنه لا ينسجم مع كمال الله تعالى!! مع أنه لم يُثبِت في مرحلة سابقة أن الشر مطلقًا قبيح!! بل افترض ذلك ثابتًا من دون دليل، فوقع في مغالطة المصادرة على المطلوب.
وبهذا يتم البيان الكلي في دفع شبهة الشرور، ولكن يبقى شيء! وهو بيان فوائد الشرور وأهميتها لتتضح واقعية ما ذكرناه هنا، لا يمكن الابتلاء في عالم خالٍ من الشرور فبعد أن ذكرنا خلاصة الجواب حول شبهة الشرور، وذكرنا أن الله قد يخلق الشر (بمعنى الضرر) لمصلحة، فجاء الوقت لطرح السؤال الثالث: ما هي أهم مصلحة في خلق الشر؟
ندّعي هنا أن الله تعالى خلقنا في هذا العالم الحاوي للشرور لأجل أن يختبرنا وتتوفر لنا الفرصة لنيل الثواب العظيم (الدليل على أن هذه هي علة الخلق متروك إلى بحث آخر) والمراد بالاختبار هو امتحان البشر بإلزامهم بتكاليف، فمن أطاع استحق الثواب، ومن عصى استحق العقاب.
ولا ريب أن هذا الاختبار أمر حسن عقلًا؛ لأنه عبارة عن فرصة لنيل الثواب العظيم.
والذي نراه أن هذا الابتلاء لا يمكن أن يقع في عالم خال من الشرور والآلام والمصائب!!
توضيح ذلك: أنه لا يخفى أن الاختبار لا يمكن أن يقع إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون الشخص المُختَبَر مختارًا متمكنًا من الإطاعة والمعصية؛ إذ لو كان مجبرًا لكان تكليفه بلا أي معنى، فلا معنى للتكليف بهضم الطعام في المعدة أو التكليف بترك ذلك؛ لأن هذه الأفعال تقع منا جبرًا بلا اختيار منا.
الشرط الثاني: أن يكون الشخص المُختَبَر عالما بالتكليف أو متمكنا من العلم به؛ إذ لا معنى للتكليف بشيء لا يُعلَم أو لا يمكن العلم به، فلا معنى للتكليف بالصلاة مثلا من دون بيان هذا التكليف وكيفية أدائه.
الشرط الثالث: أن يكون التكليف شاقًا؛ فلا معنى للتكليف بالتنفس ولا معنى للتكليف بفتح العين مرة في العمر، بل لا بد من التكليف بفعل أمر شاق يثقل على النفس كالحج والصوم والصبر على المصائب أو بترك شيء محبوب كالقمار والربا.
وعندما نلاحظ الشرط الأخير ونتأمل فيه نجد أنه لا يُعقل أن يتحقق من دون شرور (بمعنى الضرر)!!! لماذا ؟
لأننا عندما نحلل حقيقة المشقة نجد أنها تتحقق بأحد أمرين لا ثالث لهما:
الأول: فعل ما هو ضار ومكروه، كإنفاق الأموال والإمساك عن الطعام لمدة طويلة والحركة الكثيرة والصبر على الآلام الشديدة وعلى فقد الأولاد والأحباب ونحو ذلك، فهذه الأمور تتضمن نوع ضرر، وكلما زاد الضرر زادت المشقة.
الثاني: ترك ما هو نافع ولذيذ، كترك اللعب بالقمار وترك بعض الأطعمة وترك إفراغ الشهوة الجنسية، وكلما ازدادت لذة هذه الأمور ونفعها كان التكليف بتركها أشق.
ومن هنا نقول: هل يمكن أن يحصل الاختبار في عالم كله لذة وسرور وانتفاع؟! لنتخيل عالمًا تكون كل أفعالنا فيه لذيذة ونفع وكل تروكنا فيه لذيذة.
السؤال الرابع: لماذا ابتلانا الله؟
حتى تتضح الإجابة على هذا السؤال الهامّ ينبغي أن نراجع وِجداننا! ما الفرق بين أن تنال الشهادة الدراسية عن جهد وتعب و"استحقاق" وبين أن تنالها بالواسطة؟
هناك فرقان أساسيان:
الفرق الأول: اللذة الحاصلة من نيل الشهادة بجهد وتعب لا تقارن باللذة الحاصلة من الشهادة بالواسطة؛ فإن الحاصل بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب.
الفرق الثاني: الشخص الذي أعطاني الشهادة بعد استحقاقي لها فعل شيئًا جميلًا وجازاني على الإحسان بالإحسان، وأما الشخص الذي أعطاني الشهادة فهو شخص فاعل للقبيح؛ لأنه جازاني من دون أن استحق هذه الشهادة.
من خلال هذا المثال البسيط يمكنني أن أقرّب لماذا ابتلانا الله؟
البلاء في الحقيقة هو فرصة لِنَيلِ نفعٍ عظيم لا يمكن أن يُنال مباشرة!! لماذا؟
لأننا إن تأملنا حقيقة البلاء فسنجد أن وراء البلاء جزاء عظيم!
فالبلاء في الحقيقة عبارة عن فرصة لئن ننال رضا الله باختيارنا! أجل باختيارنا!!
فالإنسان الناجح في بلائه لا يكون مجرد شخص متنعم في الدنيا، بل يكون متنعمًا على نحو الاستحقاق والتبجيل والتعظيم، فيخاطبه الله بقوله "ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون" وقوله "جزاء وفاقا"!! لقد نال هذا الإنسان رضا الله تعالى!! "ورضوان من الله أكبر" وقد عده الله محسنًا إذ يقول سبحانه "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان".
فالجزاء المترتب على البلاء ليس مجرّد إنعام!! بل هو إنعام يتضمن "التعظيم" و"الرضا" و"الاستحقاق".
ومن هنا يتضح أن هذا الإنعام الخاص مما لا يمكن نيله والحصول عليه من دون ابتلاء؛ إذ ليس من المعقول أن يستحق الإنسان تعظيمًا وتبجيلًا ورضا على شيء لم يفعله باختياره!! فلا معنى لئن نمدح شخصًا ونعظمه من دون أن يكون مستحقًا لهذا التعظيم والمدح!! بل لو صدر التعظيم بحق من لا يستحق لكان هذا التعظيم سفهًا وحماقة وجهالة! والله أجلّ من أن يفعل ذلك.
فالبلاء في الحقيقة من أروع مظاهر الحياة وأجملها؛ لأنه فرصة لنيل النفع العظيم الذي لا يمكن يُنال من دون بلاء.
ويمكنك الآن أخي العزيز أن تستوعب لماذا تمثل الشرور عنصرًا رئيسًا في الحياة، وأن الشرور تستبطن خيرًا عظيمًا لا يحصل إلا من خلالها.
السؤال الخامس: لكن ما ذنب الأطفال الذين يتضررون؟!!
بعد أن تأسس الجواب على شبهة الشرور وتكامل ناسب المقام التعرض إلى مسألة تعويض بعض الشرور.
في بعض الأحيان يصيب الشر (بمعنى الضرر) بعض الأشخاص الذين لا ذنب لهم ولا تكليف عليهم، فلا يمكن أن يكون الشر هنا عقابًا لهم؛ لأن العقاب لا يصيب إلا المذنبين المعتدين. ولا يمكن أن يكون الشر ابتلاءً لهم لأنهم غير مكلفين كما في الأطفال والمجانين فما وجه الشر هنا؟
في حال صدور هذا الضرر من الله تعالى -ولو من خلال نظام الأسباب والمسببات- نقول: لا بد من أن يكون لهذا الضرر وجه عقلي؛ لأن الله تعالى لا يعبث ولا يظلم، فلا بد من وجود مصلحة وراء هذا الفعل. والذي نلاحظه أن هذه الأضرار لها أثر عظيم في ابتلاء البشر، فمرض أطفالنا وموتهم بلاء لنا من جهة وعبرة لنا من جهة أخرى! فهي بلاء لنا: أنصبر على الآلام التي تصيب أحبتنا أم لا!! أنتحرك لنفعهم وإنقاذهم أم نتركهم بلا مبالاة
وهي عبرة لنا لنستشعر عظمة النعم التي وهبنا الله إياها، فليس في البين ظلم؛ لأن الله هو المالك الذي من حقه التصرف في عباده، وليس هناك عبث لترتب مصالح على هذه الشرور.
ولكن لحظة!! نحن انتفعنا من هذه الشرور!! ولكن هل هذا على حساب هؤلاء المساكين؟
يجيب علماء الكلام هنا بأن هؤلاء المتضررين سيعوضهم الله عوضًا عظيمًا في الآخرة، وهذا العوض يبلغ مبلغا يُرضيهم بحيث يضمحل الضرر الواقع في الدنيا في عظمة ذلك التعويض. ويجري هذا تمامًا في حق كل من تضرر في هذه الدنيا لمصلحة غيره من دون أن يرتكب ذنبًا، فيدخل في ذلك الحيوانات التي لم يكلِّفها الله، فكل هذه تُحشَر يوم القيامة ليرحمها الله برحمته من خلال تعويضها بالأعواض العظيمة.
تعليقات
إرسال تعليق