هو غدير الحقيقة فقط

مقال المشكك :

جاء في مقال التالي : ( الغدير بقعة جغرافيّة تبعد عن مكّة المكرّمة وفقاً لمقاسات اليوم بما يزيد على المئتين وعشرين كيلو متراً تقريباً، وليس لحجاج أيّ بقعة مسلمة في تلك الفترة مرور بها بعد انتهاء حجّهم سوى حجاج المدينة ومن هم حولها حصراً؛ وعليه: فإنّ ما هو شائع على الألسن من كونها مفترق طُرق ناتج من أوهام مذهبيّة لا تفقه أبجديّات الخرائط والجغرافيا فضلاً عن التّاريخ والحديث؛ وذلك: لأنّ حجاج الطّائف سيقفلون راجعين إلى بلدانهم من جنوب شرق مكّة، وحجّاج اليمن من جنوبها، وحجّاج العراق ـ لو قلنا بوجود حجّاج مسلمين في وقتها ـ سيقفلون راجعين من شمال شرقها، ومن يُراجع مواقيت الحجّ في الكتب الفقهيّة يعرف ماهيّة واسماء المواقيت الخاصّة لكلّ بلد وتغايرها أيضاً. وعلى هذا الأساس: فحتّى لو سلّمنا ـ ولا نسلّم ـ إنّ نبيّ الإسلام محمّد "ص" كان قد بلّغ بخلافة عليّ "ع" السّياسيّة والدّينيّة من بعده في يوم الغدير  كإجراء سماوي ملزم وبايعه جميع من كان هناك؛ فإنّ الغدير لم يكن المكان الجغرافي المناسب لإبلاغ إمامته الإلهيّة الإثني عشريّة بعرضها العريض على جميع أصقاع الأرض كما هو شائع ومشتهر في أوساطنا؛ لأنّ من بقي من الحجاج مع الرّسول "ص" ليسوا سوى حجاج المدينة وما حولها والّذين لا يتجاوز عددهم في أكثر الاحتمالات المعقولة ـ لا المذهبيّة ـ خمسة آلاف أو ما يزيد عليها بقليل)...ثم قال الكاتب : (في ضوء هذا التّحليل البسيط ومن دون حاجة للدّخول في تفاصيل صيغ حديث الغدير وأسانيده وأسبابه ومبرّراته ودواعيه يتجلّى بوضوح: إنّ ما حصل في الغدير ليس له علاقة بالإمامة الإلهيّة الإثني عشريّة وعرضها العريض كما أراد الّلاحقون تسويقها؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكان على الرّسول "ص" تضمين بيعة عليّ "ع" والإعلان عن إمامته بمعناها الواسع والعريض في مكّة المكرّمة وأمام حجاج جميع الأصقاع، وهذا هو المعنى المعقول للبيان المتناسب مع حجم المقولة المُراد بيانها وإلزام المسلمين بها؛ ومع عدم تماميّة البيان على النّاس فلا معنى حينذاك للعقوبة على تركها ودعوى ارتداد النّاس بعد وفاة الرّسول "ص" بسبب نكوصهم على أعقابهم وتخلّفهم عن مبايعة عليّ "ع"، وعلينا أن نُعيد النّظر في طبيعة النّبوّة الّتي أرسل نبيّ الإسلام بها؛ لكي نرى هل يمكن أن يُشتقّ منها إمامة إلهيّة إثني عشريّة أم لا؟! فليُتأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد).


التعليق على المقال:

وفي مقام التعليق  على ما جاء في هذا الكلام أذكر أموراً:

الأمر الأول: إن قوله : (فإنّ ما هو شائع على الألسن من كونها مفترق طُرق ناتج من أوهام مذهبيّة لا تفقه أبجديّات الخرائط والجغرافيا فضلاً عن التّاريخ والحديث) غير تام ، لأن ما ذكره هو إن منطقة غدير خم ليست مفترقاً لجميع الحجاج ، بما فيهم حجاج اليمن ، والطائف ، ولا يثبت أنها ليست مفترقاً لجملة من الحجاج القادمين من وسط الجزيرة العربية ، و أهل البحرين،  و السواحل الغربية ، و مصر .

وما ذكر تاريخياً هو إن غدير خم كان مفترق الطُّرق المؤدّية إلى المدينة المنوّرة ، والعراق ، والشام ، ومصر ، وقد قال العلامة الأميني (رحمه الله):(فلما قضى مناسكه، وانصرف راجعاً إلى المدينة، ومعه من كان من الجموع المذكورات، وصل إلى غدير خم من الجحفة، التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين)[1]

وإذ لا حظنا أن الغدير  كان مكمن تجمع الماء ، وكانت فيه عين  فإن ذلك يجعل من المحتمل جداً أن يكون مجمع القوافل للتزود بالماء ، ويقصده المسافرون ولو كان فيه مسافة زائدة ، لشح الماء ، وعدم توفره في جميع الطرق، فقد جاء في معجم  ما استعجم : (و غدير خُمّ على ثلاثة أميال من الجحفة ، يسرةً عن الطريق ، وهذا الغدير تصبّ فيه عين ، وحوله شجر كثير ملتفّ ، وهو الغيضة التي تُسمّي خُمّاً) [2].   

وما يدل على تفرق الناس عنده موجود في كتب العامة والخاصة ، ومن ذلك ما عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزل بخم فتنحى الناس عنه، ونزل معه علي بن أبي طالب، فشق على النبي تأخر الناس، فأمر علياً، فجمعهم، فلما اجتمعوا قام فيهم متوسداً (يد) علي بن أبي طالب، فحمد الله، وأثنى عليه.. ثم قال: (أيها الناس، إنه قد كَرِهْتُ تخلفكم عني، حتى خُيِّلَ إلي: أنه ليس شجرة أبغض إليكم من شجرة تليني).[3]فإن تعبير ( فتنحى الناس عنه) يدل على أنه مكان الافتراق.

فالكاتب صور وجود (أوهام مذهبيّة لا تفقه أبجديّات الخرائط والجغرافيا فضلاً عن التّاريخ والحديث) ، ولا وجود لهذه الأوهام إلا في ذهنه.

الأمر الثاني: قوله : (فحتّى لو سلّمنا ـ ولا نسلّم ـ إنّ نبيّ الإسلام محمّد "ص" كان قد بلّغ بخلافة عليّ "ع" السّياسيّة والدّينيّة من بعده في يوم الغدير  كإجراء سماوي ملزم وبايعه جميع من كان هناك؛ فإنّ الغدير لم يكن المكان الجغرافي المناسب لإبلاغ إمامته الإلهيّة الإثني عشريّة بعرضها العريض على جميع أصقاع الأرض كما هو شائع ومشتهر في أوساطنا) غير تام ؛ وذلك لأن كون مكة أو عرفة أو منى مكان تجمع عدد أكبر من الحجج لا يعني بالضرورة أنه المكان الأنسب لتبليغ الأمر الإلهي ، فالأمور لا تقرأ بهذه السطحية و السذاجة ، وإنما لا بد من ملاحظات جميع الظروف، والملابسات، و العوامل المؤثرة في فشل و نجاح الهدف من تبليغ البيانات الخطيرة والمصيرية ، المرتبة بمستقبل الأمة ، والحكم ، وقيادة المسلمين ، ومنها كون التبليغ في مكان آمن بعيد عن الجماعات المعادية التي قد تقوم بعمل اجرامي كتصفية رسول لله(صلى الله عليه وآله) أو أمير المؤمنين(عليه السلام) أو احداث اللغط ، وإشاعة الفوضى ، ولا شك في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكن في أحسن حالاته الأمنية في مكة بين الطلقاء ، والعتقاء، وأعداء الأمس الذين اعلن الكثير منهم الإسلام كرهاً ، وتستّروا بين صفوف المسلمين ، كما إنه بالأنصار والخلص من المهاجرين أكثر منعة في غدير خم.

وهذا ما دلت عليه بعض الروايات ، ففي تفسير العياشي: عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما نزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع بإعلان أمر علي بن أبي طالب {يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك } إلى آخر الآية قال: فمكث النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثاً حتى أتى الجحفة، فلم يأخذ بيده فرقاً من الناس ، فلما نزل الجحفة يوم الغدير في مكان يقال له مهيعة  فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): من أولى بكم من أنفسكم؟ قال: فجهروا فقالوا: الله ورسوله، ثم قال لهم الثانية فقالوا: الله ورسوله، ثم قال لهم الثالثة فقالوا: الله ورسوله، فأخذ بيد علي عليه السلام فقال، من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله.[4]فإن قوله (عليه السلام) (فرقاً من الناس) بيان لحذر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهو سبب تأخير التبليغ.

ومن لاحظ روايات خطبة النبي(صلى الله عليه وآله) في عرفة يدرك الأجواء العامة التي كانت غير مناسبة لتبليغ إمامة من وتر العرب ، وأذاقهم حر سيفه و مرغّ أنوفهم بالتراب ، حتى خضعوا لرسول الله(صلى الله عليه و آله) ، ففي مسند أحمد؛ حدّثنا عبد الله، حدثني أبو الربيع الزهراني، سليمان بن داود، وعبيد الله بن عمر القواريري، ومحمد بن أبي بكر المقدمي، قالوا: حدثنا حماد بن زيد، حدثنا مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن جابر بن سمرة، قال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعرفات ـ وقال المقدمي في حديثه: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب بمنى.

وفي لفظ أبي الربيع: فسمعته يقول: (لن يزال هذا الأمر عزيزاً ظاهراً، حتى يملك اثنا عشر كلهم ـ ثم لغط القوم، وتكلموا ـ فلم أفهم قوله بعد (كلّهم)؛ فقلت لأبي: يا أبتاه، ما بعد كلّهم؟!قال: (كلّهم من قريش)[5]ولعل هذا اللغط وما هو أعظم منه وراء تأخير البيان إلى غدير خم ، ويكفينا احتمال ذلك.

ولا يُنقص التأخير من غرض النبي(صلى الله عليه وآله) شيئاً ، لأن من بَلَغَ عنهم حديث النبي(صلى الله عليه وآله) هم أصحابه في المدينة ، وهم أهل العاصمة الإسلامية ، ومن بيدهم الشوكة ، و في مدينتهم تكون الحكومة ،  وقد نُقل حديث الغدير بطرق تفوق حد التواتر ، حتى إن الذهبي اندهش لكثر طرقه الموجودة في مجلد واحد فقط من مجلدين لابن جرير[6].

وفي الحقيقة لسنا بحاجة إلى البحث عن وجه عقلائي لرد كلام الكاتب ، فإنه يكفينا تواتر حديث الغدير ، والعلم بحكمة النبي(صلى الله عليه وآله) بل وعصمته ، فإن تأخيره للبيان يكشف عن أن التأخير في محله لحكمة يعلمها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولا حاجة لنا في معرفتها لكي نعتمد على حديث الغدير في الإمامة.

الأمر الثالث: قوله : (ومع عدم تماميّة البيان على النّاس فلا معنى حينذاك للعقوبة على تركها ودعوى ارتداد النّاس بعد وفاة الرّسول "ص" بسبب نكوصهم على أعقابهم وتخلّفهم عن مبايعة عليّ "ع").

ويلاحظ عليه أنه غريب جداً ؛ إذ كيف يكون بيان النبي (صلى الله عليه وآله) في غدير خم دون مكة موجباً لعدم عقوبة من بلغه البيان ، و جحده عن علم أو جهل تقصيري؟!

إن منطقه هذا يوجب أن ننفي العقوبة عن جاحد الكثير من قضايا الدين ، لأنها لم تبين في موسم حجة الوداع ، وإنما بينت في المدينة المنورة أو في بدر أو مكة المكرمة في غير موسم حجة الوداع ؟!

بل لنا أن نقول : إن النبوة أمر عظيم ، و إذا كان الله تعالى يريد الإيمان بها فإن عليه أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله) في عواصم الدول المتحضرة في ذلك الزمان كبلاد الروم ، وفارس ، و امبراطوريات الصين ، وحيث لم يفعل الله تعالى ، وإنما بعث النبي (صلى الله عليه وآله) في مكة البلدة الصغيرة النائية، فإن من بلغه دليل النبوة و أنكر لا يعاقب ؛ لأنه ـ بحسب منطق الكاتب (مع عدم تماميّة البيان على النّاس فلا معنى حينذاك للعقوبة على تركها)؟!

 وبما يجيب الكاتب في النبوة  نجيب نحن في الإمامة. 

 لا شك في إن هذه الطريقة من التفكير ليست مستقيمة ، فإن   (دعوى ارتداد النّاس بعد وفاة الرّسول "ص" بسبب نكوصهم على أعقابهم وتخلّفهم عن مبايعة عليّ "ع") منحصرة بمن بلغه النص ، إذ كيف يرتد عن الإمامة من لم يؤمن بها من الأساس؟!

 والناس المحكوم بارتدادهم عن الإمامة ـ لا الإسلام كما بين الأعلام ـ قد بلغهم النص على الإمامة قبل غدير خم وبعده، فما هي المشكلة؟!

الأمر الرابع: قوله : (وعلينا أن نُعيد النّظر في طبيعة النّبوّة الّتي أرسل نبيّ الإسلام بها؛ لكي نرى هل يمكن أن يُشتقّ منها إمامة إلهيّة إثني عشريّة أم لا؟! فليُتأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد)، فهو لا يقل غرابة عن أقواله السابقة ، فإنه يفترض أنه لا دليل على إمامة أمير المؤمنين(عليه السلام) إلا حديث الغدير ، وحيث إن الحديث قد بلِّغ في غدير خم ، وفي تصور الكاتب هذا البلاغ لا يناسب الإمامة ، فالنتيجة هي (علينا أن نُعيد النّظر في طبيعة النّبوّة الّتي أرسل نبيّ الإسلام بها؛ لكي نرى هل يمكن أن يُشتقّ منها إمامة إلهيّة إثني عشريّة أم لا؟!).

وقد غاب عنه أن حديث غدير خم ليس هو بالبلاغ الأول، ولا الأخير، وهذا مبين في مطولات الكتب الكلامية .نعم، له خصوصية فهو بلاغ بعنوان الإمامة ، وليس لمناسبة مختلفة يستثمرها النبي (صلى الله عليه وآله) لبيان الإمامة ،كما في مناسبة إنذار العشيرة الأقربين أو إرجاف المرجفين لما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله ) علياً (عليه السلام) في المدينة ،  كما إنه يتضمن احتفالية بهذا العنوان ، ولهذا صار البلاغ فريداً يختلف عن غيره ، وقال فيه تعال: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ}[7]، و حاز اهتماماً بالغاً من المسلمين ، فنقل بطريقة متميزة، وعليه ، فلا حاجة إلى إعادة النظر في النبوة ولا الإمامة ، فالبراهين عليهما وفق المعتقد الإمامي متظافرة تامة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١):راجع: الغدير ج1 ص210 ـ 223.

(٢):معجم ما استعجم، البكري الأندلسي : ج ٢ ، ص ٣٦٨.

(٣):تاريخ مدينة دمشق ج42 ص226 و 227 ومناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص25 والعمدة لابن البطريق ص107.

(٤):بحار الأنوار : ج ٣٧ ص ١٣٩.

(٥):مسند أحمد ج5 ص99.

(٦):على ما ذكر في تذكرة الحفاظ ج2 ص 713.

(٧):سورة المائدة: آية 67


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

كلامٌ حول حديث «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»