المقايسات والمفاضلات بين أنواع العبادات




يقع الكلام أحياناً في المفاضلة بين العبادات والأعمال الصالحة، وأيهما أفضل، وأيهما أرجح، والحال أنّ معظم ما يُعتمد عليه في هذا الباب لا يُعوّل عليه لتوليد نتيجة يُطمئنُّ إليها، وحتى الروايات الشريفة لا تصلح كمعيار قطعيّ للخروج بنتيجة حاسمة في هذا الجانب لا لشكٍّ في صدورها بل لأن كثيراً من الأعمال التي ورد المدح فيها بوصف «أفعل» التفضيل من قبيل:  (أفضل الأعمال..) (أحبُّ الأعمال..) (ما عُبدَ الله بمثل كذا..) لا يمكن الجمع بينها إلا على نحو حملها على كونها كلها في المرتبة العليا، ولكن أيها المقدّم وأيها المتأخر؟! الجزمُ بذلك في أغلب الموارد صعبٌ جداً بحسب ما يتوفر لدينا من الأدلة.

كما أنه يُحتمل أنّ التفضيل الوارد في جملة من الأخبار
ناظرٌ إلى حال المخاطَب المفرَد بعينه، لا إلى حقيقة العمل في نفس الأمر والواقع، وقد يكون بلحاظ الباعث الخارجي الذي يؤكّد على ضرورة الإكثار من هذا العمل، كأن يكون الفقر شائعاً فيحثّ الإمام (عليه السلام) بصيغة المبالغة بقوله: (أفضل الأعمال الصدقة)، وقد يكون التقصير في الجانب الروحي بين المؤمنين رائجاً فيقول: (أحب الأعمال إلى الله الدعاء)، وقد يكون الإسلام في حالةٍ ضعف وعرضة لهجمات الكفار، فيقول: (خير ما يتقرب به إلى الله جهاد الكافرين..)، ويشهد لذلك ما رُوي عن الصادق عليه السلام: «إِنَّ الْعِتْقَ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ أَفْضَلُ، وَفِي بَعْضِ الزَّمَانِ الصَّدَقَةُ أَفْضَلُ، فَإِذَا كَانَ النَّاسُ حَسَنَةً حَالُهُمْ فَالْعِتْقُ أَفْضَلُ، فَإِذَا كَانُوا شَدِيدَةً حَالُهُمْ فَالصَّدَقَةُ  أَفْضَلُ، وَبَيْعُ هذَا أَحَبُّ إِلَيَّ إِذَا كَانَ بِهذِهِ الْحَالِ» (1)

وهكذا يدور أمر الروايات بين كونها ناظرة إلى حال المخاطب المفرد أو حال الواقع الخارجي، أو حقيقة نفس العمل في اللوح المحفوظ، والترجيح في هذا الجانب لا يخلو من صعوبةٍ شديدةٍ، وتركه هو المتعيّن.

نعم؛ هذا لا يمنع من التفضيل بين عبادتين قد أحرزنا أفضليّة إحداهما على الأخرى بمرجّحات يقينيّة كما ثبت في أفضلية زيارة سيد الشهداء عليه السلام على الحجّ المستحب، ومن هنا يجب التفريق بين أدلة المقايسة الظنيّة وأدلتها اليقينيّة.

والأولى أن لا ننشغل بمثل هذه الظنون، بل الأولى أن يكون لنا عملٌ في كل ميدان، وأن لا نهمل طاعةً على حساب أخرى، ففي الكل فضلٌ لا يعلمه حقيقته إلا الله تبارك وتعالى وحججه (عليهم السلام)، ولتكن نظرتنا إلى هذا التنوع بين العبادات كالنظرة إلى بستانٍ قد تنوعت ثماره، فتارة تميل النفس إلى هذا النوع، وتارة إلى ذلك النوع، والبصيرُ من يعرفُ كيف يرتب وينظِّم غذاءه الروحي بنحوٍ يظفرُ فيه بالتكامل، مع عدم إهمال أي جانبٍ، وهذا ديدنُ العلماء العارفين، ومن لطائف إرشادات بعضهم - وهو الشيخ عبد الله المامقاني - أنه كان يوصي أولاده بقراءة كل الأدعية والإتيان بكل عملٍ ولو مرةً في العمر، ليظفر بلذّة البستان الإلهي المتنوّع، فقال في وصيّته العظيمة: «وعليكَ - بُنيَّ - بقراءة كل دعاءٍ ولو في العمر مرَّةً، والإتيان بكل عملٍ واردٍ ولو مرَّةً؛ لأنّ لكل عملٍ أجراً خاصَّـاً، فينبغي أن تكونَ آتياً بها جميعاً حتى تنالَ بفضل الله سبحانه جميع أنواع مثوبات الله سبحانه، ولا تُحرَمُ من شيءٍ منها، ولقد أجادَ من شبَّه العبادات والأدعية بالأثمار، فقال: إنّك إذا دخلتَ بستاناً فيه أنواع الثمار، تحبُّ أن تذوقَ من كُلٍّ منها، فكذا العبادات يترجّحُ أن تفعل كلاً منها ولو مرةً» (2).

العبادات كلها حُسنى، ونؤديها ونحن لا نعلم هل تُقبل منّا أم لا، ونقوم بها ولا نعرف إمكان حصول ثمرتها لنا، فالأفضل أن ننشغل بها بدلاً من نصب موازين ظنيّة لا تُقدّم ولا تؤخّر.

(1)  الکافي للشيخ الكليني رحمه الله، [ط دار الحدیث]  ج 12  ص 59 ح (11219).
(2)
مرآة الرشاد للشيخ عبدالله المامقاني رحمه الله، ص 129-130.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

هل ورد أن "أبا صالح" كنيةٌ للمهدي عج؟