تنقية الأجواء
قبل فترة أثيرت ضجة حول مقاطعة إحدى منصات الإنتاج ذات السياسة اليسارية المتحررة أخلاقيًا بتطرّف؛ ويعود اليوم ذات الجدل عنها. أبرز ما قيل في الدفاع عنها أن الإنسان بالخيار إن شاء اشترك وشاهد وإن شاء ترك ولم يشاهد ولا يحق لأيهما أن يفرض رأيه على الآخر ويجبره على ما يرى، أتى ذلك في سياق مطالبة بالتوقيع على عريضة لحجب الوصول إلى هذه المنصة بسبب ما تبثه من ترويج للفسق والموبقات ودعم للشذوذ.
بداهة لا يشك أحد بأن الإنسان له الخيار، له أن يكفر وله أن يؤمن وله أن يختار بملء إرادته ما يشاء وفي نفس الوقت عليه أن يتحمل عواقب وتبعات اختياره، فكل نفس بما كسبت رهينة، وفي نفس الوقت كبديهة لا يمكن التغافل عنها فإن الإنسان إنما سنّ القوانين ووضع الحدود والأطر كي يضمن بقاء الاجتماع البشري ويحفظ النوع، فهو وإن كان يملك الخيار إلا أنه محدود الاختيار.
لو راجعت قوانين الغذاء في أمريكا وقارنتها بمثيلتها في الاتحاد الأوروبي سترى كيفية صرامة المراقبة الغذائية وكيف تصل مخالفتها لعقوبات شديدة؛ في نفس الوقت هناك عقوبات أشدّ لمن يحاول إدخال أطعمة مهربة من خارج الولايات المتحدة لداخلها؛ط خوفًا مما يمكن أن يكون فيها، من جانب آخر ترى تشددًا تجاه بعض أنواع المخدرات في دول العالم المختلفة وحربًا ضروسًا عليها تكلف المليارات سنويًا، وتجد السلطات في دول أوروبية تسن أشدّ القوانين لضمان التعامل مع الطفولة كمرحلة حساسة لتضمن نشأة سليمة لعامِلٍ مستقبلي.
هناك مئات الأمثلة التي تضرب لبيان صرامة تعامل الحكومات مع قضايا محددة بحيث لا تمانع إيقاع عقوبات مغلظة على مخالفيها، فترى دولاً تتعامل مع الوجبات السريعة كعدو، وأخرى تتعامل مع ضغوطات العمل كمرض، وثالثة تجبر مواطنيها على تعليم إلزامي، ورابعة تمارس أشد أنواع الرقابة على مسائل التدخين والعنف في الألعاب الإلكترونية، وهكذا لو تأملت لرأيت أن الإنسان الذي يتشدق بالحرية يتنازل طوعًا عن كثير من حرياته ويُسلّم نفسه بإرادته للسلطات بما تسنه من قوانين يرى أن مصلحة البلاد والعباد فيها، وأن مصلحة الجَمْع تستحق تضحية الفرد. وهذه الأمثلة ترى الناس بعمومهم يقبلونها ويرضونها ويدافعون عنها، فالسمنة مرض والإدمان مرض والعنصرية مرض، وهي كلها أمراض بدنية واجتماعية ظاهرة.
وهؤلاء الناس بعمومهم لا يرون في السلوكيات الأخلاقية الشائنة مرضًا تستحق أن تُسن القوانين أو تتحرك الجموع لأجل الوقاية منها، فالمرض الأخلاقي عندهم لا وجود على المستوى العام كما هو المرض البدني والنفسي. فمفهوم تنقية الأجواء الذي يعنى بشكل رئيسي في وقاية الإنسان من خلال إغلاق منافذ التأثير السلبي عليه وحجزه عنها يُطبق على مستوى الأطعمة والأشرية، وعلى مستوى الصناعات والمنتجات، وعلى مستوى المعاملات المادية لكن حين تصل النوبة إلى مستوى الأخلاق ترتفع الأصوات التي تستميت لأجل الحرية الفردية ووضع الإنسان بالخيار!
نفس الإنسان الذي تحرمه - بكل رحابة صدر - من خيار الإدمان أو الزيوت المهدرجة والسكريات المضافة أو الأدوية غير المختبرة أو التعليم المدرسي الإلزامي أو ساعات العمل الطويلة، تجعله بالخيار أمام الموبقات الأخلاقية والسلوكيات الفاسقة! قد يقول قائل هذه السلوكيات إنما هي في الغرب ونحن لا نقبلها إنما نشاهد أعمالاً فنية!
وهذا القائل يتغافل قصدًا عن أن كل ما يحدث من إنفلات أخلاقي عندنا إنما هو رشحة من رشحات ما يحدث في الغرب، فالشـ ـذوذ الذي كان منكرًا وجد له الآن أرضية تنادي بقبوله في مجتمعاتنا، والعيش بالمساكنة بلا زواج صار موجودًا بلا موقف تجاهه، وزيادة نسبة التعري وترك الستر والحجاب في ارتفاع منذ بدأ الإعلام بزراعة أوهام الحرية والتحرر من خلال أفلامه ومسلسلاته ومطبوعاته. لا يمكن نفي التأثير بذريعة الإيمان، لأن قوة المجتمع القاهرة تعمل كالدوامة في سحب من يقع على أطرافها.
إن الإسلام لا يتعامل مع الثمرات فقط بل يعطي للجذور حقها واهتمامه بها أكثر من اهتمامه بغيرها، فهو يركز على تنقية الأجواء حول المؤمن ليمارس إيمانه واعتقاده بلا مؤثرات سلبية، وبلا شوائب تمنعه من التصفية، ولا ينظر على أن الفرد يجب عليه أن يلقي نفسه بالتهلكة ليجاهد بعد ذلك الطوفان حتى يحصّل الثواب. القانون الذي يحجر الفرد ويمنعه من الاتصال بمروجي المخدرات يطبق ذات الفكرة، فهو لا يسمح بالمخدرات ليقول للإنسان عليك ألا تدمن عليها وهو يُعرّضه لها، بل يضع الحواجز التي تقطع عليه الوصول لها حفاظًا عليه وحفظًا للمجتمع، ولا يختلف هذا المفهوم هنا عنه هناك. فالهدف هو غلق منافذ التأثير قبل المطالبة بعدم التأثر.
إن عقيرة الناس ارتفعت لتمنع المدخنين من ممارسة ما اختاروه بمحض إرادتهم في الأماكن العامة بذريعة تأثيرها السلبي على غير المدخن، وأصوات المعترضين ملأت العالَم لمنع مشاهد التدخين والعنف حتى لا نؤثر على النشء ولم يعترض أحد بأن ذلك تدخل في الحريات أو حجر على عقول الراشدين أو أن الإنسان بالخيار لأنهم يضعون تقديرًا كبيرًا للتأثير النفسي والبدني لشدة تأثيرهما على الدائرة الاقتصادية ولكنهم يهملون التأثير الأخلاقي لأن سوق الموبقات الأخلاقية يدر مليارات الدولارات ثم يأتي بكل صفاقة من يفترض به أن يكون مسلمًا ليدافع عن نشر وترويج هذه الموبقات بذريعة الحرية التي تستبطن التحرر من أوامر الله سبحانه ونواهيه!
الإنسان قد يُدمن مشاهدة الأفلام والمسلسلات ويجد فيها ترويحًا له بلا تأثر كبير ولكنه كعاقل عليه ألا يقيس الوضع على نفسه ويبرر ما يفعله لغيره، هذا الإنسان نفسه لو عرضته لأموال سهلة قد لا يختلسها لتربية ترباها أو وازع يمنعه لكن غيره لن يجد في نفسه ذلك، مغالطة قياس النفس على الآخرين بإمكانها هدم أي مفهوم قانوني أو أخلاقي ولو أخذ العقلاء بها لما كان لمجتمع بشري أن ينتظم أو لحياةٍ أن تستمر، ولكن الذهن البشري الذي تعرض لاحتلال النسبية ومفاهيم الليبرالية تجده يرفض هذه المغالطة حين الحديث عن القانون ولكنه يقبلها ويروّج لها حين الحديث عن الدين، وهذا بحد ذاته يُبيّن لك كيف نجح الإعلام والتأثير الغربي في دفع الدين عند العامة من كونه عقيدة إلى مجرد ممارسة شكلية وهوية اجتماعية! فهذا تأثيره على مستوى العقيدة فما بالك بما هو دونه.
تعليقات
إرسال تعليق