الدين و نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)*
قال تعالى : (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[1] صدق الله العلي العظم.
تصدير :
طُلب مني أن أتكلم حول موضوع ملح يشغل العقل البشري المعاصر ، وقد كنت في حيرة من أمري ، لأن المواضيع الملحة كثيرة جداً ، ولكن خرجت من حيرتي باختيار موضوع بعنوان : (الدين ونظرية المعرفة ) ، فإن لمنكري الدين منطلقات متعددة ، وبعضها منطلقات معرفية ترتبط بنتائج قررها الفكر الغربي في نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) ، وقبل أن نقف على هذا المنطلق و نذكر بعض النقود و الردود تعالوا معي لنقف قليلاً على عرض موجز لتاريخ العقل البشري مع العلم والمعرفة .
مراحل العقل البشري في مسألة المعرفة:
مرّ تاريخ العقل البشري في مسألة العلم والمعرفة بمراحل ثلاث :
المرحلة الأولى : النظرة الموضوعية للأشياء .
وفي هذه المرحلة كان الناس لا ينظرون للعلم والمعرفة ، وإنما ينظرون للأشياء المتحققة في الخارج ، فيتعرفون على أقسام الوجود و على أن للأشياء صانعاً ، ويحاولون معرفة الإجابة على جملة من الأسئلة التي ترتبط بالواقع الموضوعي من قبيل :
هل صانع الموجودات الحادثة حادث أم لا هو قديم ووجوده ضروري بالنسبة إليهم ؟
وهنا لا ينظر للعلم المعرفة ، وإنما ينظر بواسطة العلم والمعرفة ، فالعلم كالمرآة ينظر من خلاله ولا ينظر إليه ، نظير أن يقف الواحد منا أمام المرآة فهو لا ينظر للمرآة ، وإنما ينظر بواسطتها إلى نفسه ، و الناس في المرحلة الأولى يفعلون مثل ذلك في العلم فهم لا ينظرون إلى العلم والمعرفة ولكن ينظرون إلى الأشياء ، والعلم ما هو إلا مرآة يتعرفون من خلاله على الأشياء في الخارج .
المرحلة الثانية : هي المرحلة الطريقية .
قبل الميلاد بخمس قرون تقريباً وجدت مجموعة من الناس اطلق عليهم لفظ) السفسطائيون) ، و نقلت عنهم دعاوى كثيرة منها ثلاث دعوى اختزلت في عبارة عبرت القرون منسوبة إلى فيلسوف سوفسطائي اسمه غورجياس [2]، و مفاد العبارة هو :
١- لا وجود للأشياء ، وما نراه في الخارج مجرد خيال ، فكما يقول الشاعر :
كل ما في الكون وهم وخيال أو عكوس في مرايا أو ظلال
وإذا لاحظتم هذه الدعوى تجدونها مرتبطة بواقع خارجي، فهي دعوى أنطولوجية.
٢-لو كان هناك شيء متحقق في الخارج، فلا يمكن أن نتعرف عليه، فلا توجد رابطة علمية بيننا وبين الأشياء.
٣-ولو سلمنا بوجود واقع في الخارج وسلمنا أنه يمكن أن نتعرف على الوجود الخارجي، فلا يمكن نقل المعرفة من عقل إلى عقل آخر بمعنى أني لو كانت أعرف الواقع فلا يمكن أن أُعرف الواقع للآخرين .
والدعوتان الأخيرتان ـ الثانية والثالثة ـ مرتبطتان بالعلم والمعرفة ، فهما ترتبطان بشيء في وهو المعرفة ، وهنا ألتفت الذهن البشري لأول مرة إلى بحث العلم والمعرفة فطرح سؤالين مهمين وهما :
س1: هل بأماكننا أن نعرف الأشياء ؟
س2: إذا عرفنا الأشياء هل بمكاننا أن نعرف الأشياء للآخرين ونقيم البرهان على وجودها كحقيقة للغيري فنوجد قناعة بالحقيقة نعلم في ذهن الآخرين أم لا ؟
وهذان السؤلان يرتبطان بالعلم والمعرفة، فصار الناس ينظرون إلى العلم والمعرفة بخلاف الحال السابق ، فتظافرت جهود الباحثين في هذا المجال فوجدت مسائل علم المنطق وهي مسائل آلية غايتها عصمة العقل، فإذا استعملها الذهن بطريقة صحيحة تعصمه من الوقوع في الخطأ في التعرف والتعريف .
فإذا أراد الباحث أن يعرف الأشياء بطريقة صحيحة أو أن يبين الأشياء بطريقة صحيحة فعليه أن يلتزم بقواعد خاصة، وهنا أصبح العلم منظوراً ، ولكن كطريق إلى الواقع ، ولابد من وجود قواعد تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ وتجعل المعرفة معرفة صحيحة .
واستمر الناس في هذه المرحلة الطريقية إلى أن جاء عصر النهضة والأنوار في أوربا تقريباً من القرن الرابع عشر إلى القرن الثامن عشر في هذه الحقبة ، و بسبب مجموعة من العوامل وجدت تيارات فكرية كثيرة متناقضة وبعيدة عن بعضها بعد المشرقين ونتيجة ذلك عاد منهج الشك و (السفسطة ) من جديد بعد أن مات ، فشاعت في أوربا موجة الشك في المعرفة فعادت الأسئلة التي كانت مطروحة من جديد ، وأخذ الباحثون يستاءلون ، هل بإمكاننا أن نُحصّل علماً ، وهل العلوم التي عندنا مطابقة للواقع أم لا ؟
وتقريباً قبل سنة١٨٦٠ م بقليل تأسس علم جديد سمي علم نظرية المعرفة، قيل أسسه الفيلسوف الإسكتلندي جيمس فريدريك فيريرJames Frederick Ferrier المتوفى سنة 1863م ، وكان موضوعهذا العلم نفس العلم والمعرفة ، بخلاف العلوم الأخرى ، ففي علم الرياضيات ـ مثلاً ـ موضوع المسائل الأرقام ، وعلم الفلك موضوعه الأجرام السماوي ، فموضوع البحث في الفلك هو الأجرام السماوية ، و المطلوب العلم بالأجرام السماوية ، بينما نظرية المعرفة موضوع البحث هو المعرفة نفسها ، ونحاول أن نحصل علماً بالمعرفة وبأمور ترتبط بالمعرفة.
المرحلة الثالثة : النظرة الموضوعية للعلم و المعرفة :
وهنا صار العلم هو مادة للبحث ووجد فلاسفة تخصصوا في نظرية المعرفة ، و يبحثون أحكام العلم نفسه ، فوجدت أبحاث كثيرة ، ومن ضمن أهم هذه الأبحاث ثلاثة:
١-من أين العلم و ما هو مصدره و المنشأ لتحققه ؟
٢-ما هو الميزان العلمي للمعرفة ، و بعبارة كيف أميز بين العلم الحقيقي والعلم الزائف مثل يذكر البعض أن علم الأبراج من العلوم الزائفة وعلم الرياضيات علم حقيقي ، فما هو المعيار الذي يميز العلم الزائف عن الحقيقي؟
٣-ما هو ملاك الحقيقة، فإذا قيل : هذا العلم حقيقة ما معنى أنه حقيقي ؟ وإذا قيل هذا العلم زائف فما معنى كلمة زائف ؟
انقسام الباحثين الغربيين:
و في أوربا وجد تياران أساسيان في مسألة مصادر المعرفة هما :
١-تيار أصحاب المنهج التعقلي ، وهؤلاء يرون أننا من خلال العقل والقضايا العقلية يوصلنا إلى المعرفة .
٢- تيار أصحاب المنهج الحسي والتجريبي ، وهؤلاء يرون أننا من خلال الحواس و بالتجربة نصل إلى المعرفة ، فبالاتصال بالأمور الخارجية تحصل عندي مجموعة تصورات وهذه التصورات توصلني إلى المعرفة ، مثالاً العين تدرك الألوان و تميز بينها ، وعندي حاسة للمس وادرك من خلالها الحار والبارد ، وغيرها فيتولد عندي علم بالأشياء الخارجية.
نتائج سيطرة النهج التجريبي:
و الذي سيطر على العقل الغربي هو الأسلوب التجريبي الذي يستند إلى الحس في المعرفة ولذا ازدهرت عندهم حقول الطب والهندسة والفلك والفيزياء وسائر العلوم التجريبية ، لأنهم رأوا أن العلم الحقيقي لا يأتي إلا عن طريق الحس ، لأنه الطريق الموثوق ، وبالتالي يجب أن تصب الجهود في دراسة العلوم التجريبية، فالسواد الأعظم منهم أنتهج هذا الأسلوب ، و ترتب على ذلك أن يجعلوا معيار الصدق والعلم الحقيقي ما يكون قابلاً للتجربة وما لا يخضع للتجربة فهو علم زائف مثل القضايا العقلية أو العلوم التي تستند إلى الوحي ، فهذه حسب نظرهم علوم مزيفة، لأنها لا تخضع لقواعد التجربة الحسية فقالوا: الجنة والجن والملائكة وغيرها تندرج ضمن الأساطير، لأنها لا ترجع إلى المنهج التجريبي .
ثم ذكروا في البحث الثالث ـ وهو ملاك الصدق أو الحقيقة أنه يجب أن تكون القضية مطابقة للواقع الحسي الذي تقع عليه الحواس لتكون صحيحة، فمثلاً إذا جاؤا إلى التفاحة وحددوها ضمن ثلاث ألوان ( الأحمر و الأصفر والأخضر) فتكون قضية التحديد صحيحة إذا طابقت الواقع المحسوس ، أما لو وجدت ألوان غير الثلاثة ، أو كان بعض الثلاثة مفقوداً فالقضية باطلة أو زائفة .
فهم يقولون كل قضية يكون ملاك صدقها وحقانيتها مطابقة الواقع الخارجي المحسوس ، وعليه يكون وجود الله سبحانه وتعالى من العلم الزائف، لأنه لا يوجد مطابَق يقع عليه الحواس ، فإن الله تعالى عند الإلهيين لا يدرك بالحس ، لأنه ليس من سنخ الموجودات المحسوسة ، ووجدت جماعة يتبعون مدرسة ڤيينا الوضعية The Positivistic Vienna School و اشتهروا باسم "جماعة ڤيينا" أو "حلقة ڤيينا" Vienna Circle أو جماعة المدرسة الوضعية و منهم و يشارك معهم في النهج تأسس النهج ( أغست كونت) ، و هؤلاء ترفعوا وقالوا : إن قضية الله موجود والملائكة موجودة وسائر القضايا التي لا تدرك بالحس لسيت قضايا لا يمكن التعرف على صدقها فحسب ، بل هي ليست قضايا أصلاً ، وليس لها معنى ، وإنما هي مجموعة عبارات لا تدل على معنى ؛ لأن الذي له معنى يجب أن يدرك بالحس ، و هذا المنحنى من التفكير أدى إلى أن ينكر مجموعة من الناس حقانية الدين فقالوا: إن الدين عبارة عن قضايا لا يمكن أن تدرك بالتجربة ، فهي ليست حقه فإذا قلنا : إن الله موجود ، فما قلناه عبارات لا تشكل قضية حقيقية تدرك بالحواس إذاً هي ليست حقه .
و إذا كانت فكرة الإله أساس الدين فلا واقعية للدين بعد انهيار قيمة فكرة الإله ، كما أن أكثر معطيات الدين تنتهي إلى الوحي ، والوحي طريق آخر غير التجربة ، والتجربة هي المصدر والمعيار ، وحيث إن الوحي لا يخضع للتجربة إذا كل معطياته تندرج تحت الخرافة .
وهذه النتيجة أوجدت لغير المتدينين طريقاً للبحث في نظرية المعرفة عن سبب لرفض الدين وتكذيب ما جاء به الأنبياء(عليهم السلام) .
مناقشة هذا المنطلق اللاديني:
ولكن يلاحظ على هذه الدعوى مجموعة من الملاحظات نذكر ملاحظتين منها:
نقد حصر مصادر المعرفة في التجربة :
الملاحظة الأولى : أدعوا أن مصادر المعرفة الحس والتجربة فقد ، ولكن هذه الدعوى باطلة لماذا؟ لأن هناك مجموعة من القضايا العقلية سابقة على التجربة ، ولا يمكن أن تكون التجربة الحسية نافذة ونافعة مالم نسلم بوجود قضايا عقلية قبلها ، ومن هذه القضايا:
1ـ قضية اجتماع النقيضين.
2ـ مبدأ العلية .
فمن المحال وجود زيد في هذا المكان مع عدمه في الوقت نفسه ، وهذه قضية سابقة على التجربة ، ومن المحال تحقق عدم وجود علة مع وجود المعلول أو العكس ، ولا يمكن أن نقبل معطيات التجربة قبل أن نسلم بهاتين القاعدتين، ففي التجربة الموصلة إلى أن الصداع يرتفع بأخذ أقراص الاسبرين لا يمكن أن نسلم بحقانية وصدق هذه القضية كمنتج للتجربة إلا إذا آمنا بمبدأ استحالة اجتماع النقيضين ومبدأ العلية ، فلو جربنا آلاف المرات ووجدنا الصداع يرتفع ، سوف يقال لنا هو ارتفع ولم يرتفع ، والاسبرين اقترن ولم يقترن، وكان علة وغير علة ، بل علة للصداع في آن واحد ، ولن ندفع ذلك إلا بالقول باستحالة اجتماع النقيضين ، وهذا يعني أن هذه القضية قبل التجربة لأنها لو كانت تجريبية لزم الدور لتوقف التجربة عليها أيضاً.
وإذا قبلنا قضايا عقلية سابقة ، هذه القضايا العقلية هي التي توصل إلى إثبات وجود الله سبحانه من خلال آثاره ، فنحن نقول البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام يدل على المسير أسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدلان على اللطيف الخبير؟! فوجود السماء والأرض يدل على وجود الله سبحانه، فلماذا حين نستخدم التجربة في إثبات شيء نعتبر النتيجة حقة مع أن انتاج التجربة بسب وجود قضايا عقلية سابقة ، ولا نعتبر قضية ووجود الله سبحانه علم حقة مع أنها تعتمد على القضايا العقلية السابقة نفسها؟!
إما أن نؤمن بالعقل مطلقاً أو ننكر العقل مطلقاً ، فحكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد .
ضابطة العلم الحقيقي والتجربة :
الملاحظة الثانية : هناك بحث طرحه المعاصرون بعنوان الفرق بين العلم الحقيقي والعلم المزيف ، وذكر فريق أن ضابطة الفرق تكمن في تكرار التجربة، فإذا تكررت التجربة مراراً وخرجت نفس النتيجة يطلقون عليها العلم الحقيقي، وما عدا ذلك يعد علماً مزيفاً ، فالفرق بين العلم المزيف والعلم الحقيقي تكرار التجربة ولذا قالوا هناك مراحل للمعرفة وهي : أن تفرض شيئاً ثم بعد ذلك تأتي ملاحظة الآثار المترتبة على تلك الفرضية والظواهر المرصودة ، ثم تكرر التجربة فإذا اتحدت المعطيات يطلق عليها لفظ النظرية ثم تُعرض الاختبار مراراً وتلاحظ الأدلة الداعمة فتصبح حقيقة علمية أو أطلق عليها قانون عام ، فمن مراحل الوصول إلى الحقيقة تكرار التجربة .
ولكن هذا الكلام ليس صحيحاً على إطلاقه ، فالتجربة معيار في العلوم التجريبة الحسية ، و نذكر في مقام الإشكال أمرين :
الأمر الأول : هو أن العلماء وحتى غير المتدينين منهم يعتقدون بأن هناك علوم تندرج من ضمن العلوم الحقيقية ، وهي لا تكون خاضعة للتجربة والرصد الحسي المباشر ، بل أكثر من ذلك هي لا يمكن أن تختبر ، وأذكر مثالاً على ذلك نظرية الانفجار العظيم (Big Bang) التي يعتقد بها أستيفن هوكنج صاحب كتاب التصميم العظيم ، فإن هذه النظرية من العلم غير الزائف عندهم، مع أنه لا تخضع للرصد الحسي المباشر ،إذ لا يوجد إنسان يمتد عمره إلى ما قبل ١٣،٧ مليار سنة كي يكون معاصراً للانفجار فيخبرنا عما شاهده لحظة الانفجار ، فكل ما يرصده هؤلاء مجموعة من الآثار ، وما عندهم الأدلة التالية ونحوها :
الدليل الأول : ما يسمى بظاهرة الانزياح الحمراء (redshift) التي تعني تبدل لون طيف الكواكب والمجرات بسبب ابتعادها عن كوكب الأرض.
وقد اكتشف هذه الإزاحة إدوين هابل سنة 1929 م
الدليل الثاني: هو الذي قدمه المهندسان رنو بينزياس (Arno Penzias) و روبرت ويلسن (Robert Woodrow Wilson) في سنة 1964م، فقد قدما للعلماء دليلاً واضحاً ـ كما قيل ـ على الانفجار العظيم، فقد كان المهندسان يحاولان اصلاح تشويش في هواء الإرسال ، ولكن اتضح لهما أنّ هذا التشويش موجات الميكروويف(Microwave) التي تشكل الإشعاعات الخلفية للكون (cosmic microwave background radiation)، وسبب هذه الإشعاعات أن الكون انفجر فسيطرت عليه حرارة فائقة جداً ، وهذا ما يشي بأن الكون كان مجتمعاً تسيطر عليه حرارة فائقة وهي لحظة الانفجار.
الدليل الثالث: وجود العناصر الخفيفة والثقيلة في الأجزاء الباردة جداً، مع أن هذه العناصر لا يمكن أن تتشكل إلاّ تحت ضغط حرارة شديدة وعالية جداً ، فوجودها في الأماكن الباردة دليل على هذا الكون كان صغير الحجم بنحو تسيطر الحرارة على جميع أجزائه، ثم تمدد فوجدت هذه العناصر في الأماكن الباردة التي لا توجد فيها تلك الحرارة المطلوبة لتشكلها.
ومن الواضح أن هذا الاستدلال من سنخ استدلال الإلهي على وجود الله تعالى ، لأن فيه انتقال من الأثر إلى المؤثر الذي لا يدرك بالحس ، إذ ما هو الفرق بين الانتقال من آثار الانفجار إلى الانفجار وبين الانتقال من آثار الله تعالى إلى وجود الله تبارك وتعالى؟ لماذا يعتبر الانتقال من أثر الانفجار إلى الانفجار علماً حقيقياً ، بينما الانتقال من وجود الكون وحدوثه إلى وجود قديم خلق لهذا الكون أو من اتقان الكون واتصال تدبيره إلى وجود مصمم صانع حكيم قادر ليس أعمى يعتبر علماً زائفاً ؟!
هل المطلوب أن يلحد الإنسان حتى لو خالف معطيات العلم التي يعتق و يطبقها أم المطلوب الوصول إلى الحق ، والوصول يتطلب عدم ازدواجية في تطبيق المعايير .
فلأن هناك معطيات لا تخضع للتجربة ويسلم الجميع بصدقها وحقانيتها بل التجربة نفسها تتوقف عليها ، فلا يمكن أن نجعل ميزان الحقيقة والعلم الحقيقي التجربة فقط ، إذ يلزم من ذلك انهيار جميع المعارف حتى المستندة إلى التجربة.
الأمر الثاني : من يقول بأن ملاك الحقيقة هو التجربة يواجه السؤال التالي :
هل هذه القضية التي تؤمنون بها وهي : (ملاك الحقيقة التجربة) و (تكون القضية صادقة بمطابقة الواقع الحسي فقط) قضية حسية ندركها بالحواز وتستلقي تحت المجهر و نبصرها بالعين أم هي قضية عقلية؟
الجواب : من الواضح أنها ليس حسية تجريبية ، وإنما هي إدراك عقلي، فإنه إذا قيل ( جاء زيد ) لا ندرك في الخارج بالحس إلا مجيء زيد ، أما أن هذا الإدراك هو ملاك الصدق ، فهذا ليس شيئاً يتحرك في الخارج ، وإنما هو يستند كما ذكر بعض الفلاسفة إلى برهان عقلي وهو أن الواقع سبب لحصول الصورة فلولا وجود منشأ في الخارج لحصول الصور الحسية لم تحدث الصور في الذهن لاستحالة تحقق كل شيء من أي شيء ، فتعرفنا على أن رؤيتنا لمجيئه ملاك وميزان كون الخبر من خلال دليل العقل ، أو من خلال حساب الاحتمال الذي يعتمد على استحالة اجتماع النقيضين كما يرى بعض الفلاسفة .
كما أن قولنا ( التجربة هي مناط الحقانية) لا يقصد بلفظ التجربة فيه فرداً خاصاً ، لأن هذا الكلام يشكل قاعدة عامة تنطبق على كل تجربة ضمن شروط خاصة ، وعنوان التجربة العام لا وجود له خارجاً ، وإنما هو ادراك عقلي .
إذن ، المعارف الدينية لأنها تنطلق من العقل ـ وهو حجر الزاوية ـ الذي تبنى عليه جميع المعارف البشرية ومن ضمنها التجربة فلا يمكن أن يقال عنها أنها مزيفة .نعم ، ينبغي أن نبحث هل الدليل الذي يستدل به المتدينون عن وجود الله هل دليل صحيح أم لا ؟ أما أن يرفض لأنه لا يرجح إلى التجربة فهذا ليس من المنهجية العلمية في شيء.
والقرآن الكريم بين أن مصادر المعرفة ومناط الصدق وميزانه لا ينحصر في الحس ، بل هنالك طريق العقل وطريق الحس قال تعالى : "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" فالسمع و البصر مثال طريق الحس ، والفؤاد هو العقل أو القلب ، ثم بعد أن بين القرآن ذلك أقام برهاناً عقلياً يعتمد على مقدمة تجريبة على حقيقة من أهم حقائق الدين فقال :" أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ".
وهذا المنهج المتوازن هو منهج المتدينين في إثبات الحقائق ، فكل مسألة ينبغي أن يلاحظ فيها المنهج المناسب لها ، ولا ينبغي الخلط بين المناهج.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
-----------------
* كلمة ألقاها سماحة الشيخ حيدر السندي في مجلس الكوثر بالعمران بتاريخ ١٤٤٠/٠٨/١٣ هـ، وقررها الأستاذ زاهر العبد الله (وفقه الله)
[1] ـ سورة النحل : آية 78 ـ 79.
[2] ـ جاء في موسوعة أعلام الفلسفة ص 114: غورجياس Gorgias اليونتيوم نحو 485 ق. م / ۳۷۱ ق. م) حياته: سفسطائي وخطيب يوناني أسهم بفعالية في تطوير النظريات الخطابية . طلب مساعدة الأثينيين ضد السيراقوسيين. استقر لاحقاً في اليونان حيث علم فن الخطابة والبلاغة ، له: مديح هيلانة و دفاع عن بالامادس، لم يبق منهما سوى شذرات. كما له أيضاً في الطبيعة أو في اللاوجود لم يصلنا. خلاصة مذهبه، الشكية، فهو يصر على أن الوجود غير موجود وأنه إذا وجد فلا يمكن أن يعرف ، وأنه إذا عُرف لا يمكن أن يُتناقل.
تعليقات
إرسال تعليق