هويّة مذهب الإمام الصادق (عليه السلام)..*


من يُطالع التراث العلمي عند أهل السنة يجدُ كثيراً من العلماء الذين أطروا وأثنوا على الإمام الصادق (عليه السلام) ووصفوه بالوثاقة، وفي الدراسات المتأخرة، نجدُ تلهُّفاً وحماساً كبيراً لإثبات «سنيّة» الإمام الصادق (عليه السلام)، وأنه كان ملتزماً طريقتهم، وهذا ما يقطع الطريقَ أمام الخصم التقليدي وهم الشيعة الذين ينتسبون إليه، وبما أنّ الفريقين يدعيان انتساباً، ينبغي للباحث أن ينظر في ما عند الطرفين بنحوٍ يحقق في أدلة النسبة بطريقة علمية، ومن خلال مطالعة متتبعة للكتابات السنية حول الإمام الصادق (عليه السلام)، يمكن أن نطرح بعض الملاحظات:

• يخلص القارئ من ملاحظة التوثيق والإشادة بعلم الإمام الصادق (عليه السلام) إلى أنه في رتبة أعاظم أهل السنة من قبيل مالك وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة بن الحجاج وغيرهم ممن في هذه الرُتب العالية، وفي نفس الوقت لا نكادُ نجدُ للإمام حضوراً لائقاً بمقامه عندهم، وهذا بحد ذاته يستدعي تساؤلاً.


تذكرُ الباحثة لطيفة الهادي في دراسة ماجستير لها حول الإمام الصادق عندهم، أن عدد مروياته (٢٣٦) رواية، على هذا النحو من التقسيم:

الصحيح: (٧١).

الحسن: (٨٢).

الضعيف: (٨٣).

ما يعني أن ما ثبت عن الإمام بالأسانيد المعتبرة: (١٥٣) رواية فقط، وهذا المقدار لا يُعَدُّ كافياً في التثبت من هويّة الإمام بما يكتنفها من جدلٍ شديدٍ، مضافاً إلى أنهم عاشوا في عُزلةٍ عنه طيلة الخلافة الأموية، وفي ذلك يقول عبد العزيز بن محمد بن عبيد الدراوردي (ت: ١٨٧ هـ): (لم يَرْوِ مالك عن جعفر بن مُحَمَّد حتى ظهرَ أمْرُ بني العباس)، وبعد سقوط الأمويين لم يكن الحال أفضل، فقد بقيت الرواية عنه نادرة، وفي هذا يقول عمر بن حفص بن غياث  (ت: 222 هـ): (أما من يكذب على جعفر بن محمد فلا يبالون به، وأما من يصدق على جعفر فلا يُعجبهم)، فما هو سرُّ عدم الإعجاب؟ مع الالتفات إلى أن هذا أحدُ الكواشف عن ندرة مروياته مقارنة بأهل طبقته، وللندرة أسباب أخرى نرجئها للكلام في المقال المفصّل.

• لا تثبت معظم المنقولات المذكورة في المجاميع الفقهية عن الإمام الصادق (عليه السلام)، بل وفقاً لشروط التثبت في النقل عندهم، لا يبقى منها إلا النزر اليسير إن أمكن ذلك أصلاً، فهل بعد هذه الندرة والضبابية يحق لهم الجزم بتوجهه؟ إلا إن اتكلوا على حسن الظن وهذا لا ينفع في البحث العلمي.

• الروايات عنه (عليه السلام) على قلتها، جملة منها لافتة للنظر منها، ويُلاحظ أنها ما رويت عنه إلا لمناقضة أقوال الإمامية، ولا سيّما للتأكيد على موقفه من الشيخين وبعض القضايا الأخرى كقضية خلق القرآن والرجعة والنكاح المنقطع، وكأن استحضار الإمام الصادق في مرويات أهل السنة يشبه استحضار شاهد الزور، لا يؤتى به إلا لأداء غرضٍ معين، وهنا لا أقول إلا: كاد المريب أن يقولَ خذوني! ولا أريد بهذا الجزم بأمر ما، ولكني أطرح علامة استفهام هنا، فليتبصرها المدقق.

• يمكن استكشاف صدق الانتساب للصادق (عليه السلام) من خلال تقييم الفقه الإمامي، فإن الباحث في الفقه الإسلامي يمكنه أن يستكشف صدق المنقول عنه في الفقه الإمامي من خلال النقد والتمحيص وتتبع القرائن، حيث إنه لا يشبه فقه الغلاة وفرق الانحلال والزندقة التي كانت تعبث بأصول الشريعة لتستقطب الأراذل، بل هو فقهٌ منضبطٌ ويسيرُ في المسار المؤصّل والمبرهَن وهذا غالباً ما يُراعى فيه الصدق بالنقل، حتى أنّ ابن تيمية على معاندته للشيعة عند محاولته تأييد رأيه اعترفَ وأقرّ بأن جمهور ما ينقله الشيعةُ من الشريعة موافق لقول جمهور المسلمين، فيه ما هو من مواقع الإجماع، وفيه ما فيه نزاع بين أهل السنة، فليس الغالب فيما ينقلونه عن أئمة أهل البيت من مسائل الشرع الكذب، بل الغالب عليه الصدق، هكذا أقرّ في رسالته في الرد على السبكي.


وعلى هذا سار بعضُ المتأخرين أمثال الشيخ وهبة الزحيلي الذي يعبر عن الإمام الصادق بأنه (مؤسس مذهب الإمامية)، وفي سياق ذلك يقول: (وفقه الإمامية وإن كان أقرب إلى المذهب الشافعي، فهو لايختلف في الأمور المشهورة عن فقه أهل السنة إلا في سبع عشرة مسألة تقريباً، من أهمها إباحة نكاح المتعة، فاختلافهم لا يزيد عن اختلاف المذاهب الفقهية كالحنفية والشافعية مثلاً) [الفقه الإسلامي وأدلته، ج١، ص٥٨]، كما وافقه في ذلك المفكر جمال البنا حيث قال عن الشيعة: (وآخرون اهتدوا إلى إمامٍ توافرت فيه خصائص رجل الدولة من دهاءٍ وذكاءٍ واتّباع لسياسة النفس الطويل والمدى البعيد هو الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين الذي يعد المؤسس الحقيقي للفقه والسياسة الشيعية) [السنة ودورها في الفقه الجديد:٢٣].



وهكذا من خلال النظر والتحقيق في الفقه الإمامي ستُفتح ثغرةٌ في القوالب المذهبية الجامدة، والتي خُلقت في فضاء نزاع وتعصب لا تحقيق، وبذلك جمدوا على مقولة سنية الصادق عليه السلام لقرون طويلة، ومن خلال فتح هذا الباب للتحقيق في فقه الإمامية وتتبع بعض القرائن التاريخية في التراث السني يمكن الإمساك ببعض الخيوط التي ستزعزع تلك القناعات التقليديّة، وسيثبت مع مرور الوقت إمكان إسقاط تلك المقولات المذهبية التي حظها من التعصب والتقليد أكبر من حظها من التثبت والتحقق.. وللحديث تفاصيل أخرى لا يسع المجال ذكرها هنا، نجعلها للمقال المفصّل.



وإجمالاً: ليس من الإنصاف أن من لا يعلم تفاصيل سيرته، ولم يعتنِ به في حياته وبعد مماته أن يستحوذ عليه، وينفي الآخرين عنه، وكأنه تظلل به في المحيا والممات عنايةً ووراثةً، وهذا ليس خاصاً بأهل السنة، بل يشمل غيرهم كالإسماعيلية الذين يدعون الانتساب إليه رغم إقرارهم بشدة الغموض حول شخصيته[انظر: مصطفى غالب، تاريخ الدعوة الإسماعيلية: ١٢٠]، وهذا يوحي بفقدان الكثير من الأمور الضرورية حول شخصيته العظيمة، وهذا الخلل في المعرفة يمكن إرجاعه إلى القرب والبعد منه، والذي يرجع بالأساس إلى ظروف نشأة تلك المذاهب..

وللحديث بقية وتفاصيل.



* خلاصة مسودة مقال قديم حول دعوى نفي انتساب الإمامية للإمام الصادق عليه السلام.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

هل ورد أن "أبا صالح" كنيةٌ للمهدي عج؟