الأنبياء الكذبة



للشيخ الجوادي الآملي كلمة لطيفة يصف فيها بعضهم بقوله: "ما أنكر أحد النبوة إلا وادعاها لنفسه". تارة يدعيها صراحة بتأسيسه لـ"دين" وتارة يدعيها مضمنة في مهاجمته للأديان واعتبار نفسه رائد التنوير والتحرير! لكنّ هناك مائز مهم هنا يرسم حدًا فاصلاً بين صاحب النبوة وبين مدّعيها، وهذا المائز هو تناسق الشخصية مع الدعوى، وملائمة الدعوى للفطرة السليمة.

لو أخذت شخصية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وتأملتها، فإنك كلما تعمقت فيها ازددت حبًا لها، وبغض النظر عن التفسيرات الغيبية لهذا الحب، إلا أن هناك سببًا فطريًا فلسفيًا. باختصار مخل يمكن الاستعانة بما أقره «هيدغر» الفيلسوف الألماني حيث اعتبر الفن كاشفًا لحقيقة الوجود، فهو ليس عملاً فقط إنما دلالة على حقيقة الوجود، فالعمل الفني يكتسب جماليته ليس من كشفه لظاهرة أو بتعبيره عن حالة شعورية بل من أصل وجوده أي من الفنان الذي أنشأه. فإن ما يعتبر جميلاً ليس لأنه جميل بل لأنه يمثل تناسقًا ما بين ما يكونه الشيء وبين الكيفية التي يكون عليها، فالماهية عنده ليست بكينونية الشيء إنما بدوامه وبقائه عليه، وهي علاقة ثلاثية بين الأصل والشيء وبقائه. لذلك ففهم شخصية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله يأتي من التناسق والتناغم التام بين شخصيته وبين سنته وسيرته وبين الأصل الإلهي الذي هو عامل جذب موجود في أصل الفطرة البشرية، لذلك كلما تعمق بها الإنسان ازداد حبًا وعشقًا لها لأنها تمثل كمالاً لا تخطئه النفس البشرية، ولا المدركات العقلية البديهية عند الإنسان التي هي الحجة الباطنة عليه كما في الرواية عن الإمام الكاظم عليه السلام.

في المقابل، انشغلت في الفترة السابقة بمتابعة سيرة أحد "أنبياء" هذا العصر المتأخر وهو (باغوان) [والمشهور باسم "أوشو"]، وهي شخصية أخذت صيتًا واسعًا في الغرب وبدأت في الانتشار في محيطنا الشرقي من خلال ترجمة كتبه ومحاضراته. أول ما يلاحظه الناظر لسيرته هو أنه تعامل مع النفس البشرية على أنها نفس طالبة متعة، وأن الديانات السماوية بحضورها الأخلاقي تشكل قيدًا للشهوات والمتع البشرية، وتقف عائقًا أمام الرغبة البشرية بالاستحواذ والحيازة والاستملاك الطامع، لذلك فإن ما يمثل عامل جذب لها من حيث كونها سدًا أخلاقيًا ضد المفاسد والموبقات هو نفسه ما يمثل عامل طارد منها، سيما من يرى في تقييد المتع البشرية واللذائذ المادية تهديدًا لمعنى الحياة المحكورة بهذه السنوات القليلة، فعنوان اباحتها هو (ضرورة) الاستمتاع بكل اللذائذ ما لم تعتد على الآخرين، وهي مغالطة يفضحها تصعيدها لدرجة (الضرورة المفروضة) وكأن الإنسان بهيمة لا يتحرك إلا بغرائز لا يستطيع كبحها إنما عليه الحرص ألا يضر بها الآخر، ما لم يكن حجر عثرة أمام متعته!

لذلك في الوقت الذي ادعى به هذا (المعلم الروحي) الحاجة إلى الاستناد إلى روحانية الشرق ومزجها مع مادية الغرب، فإنه جعل من الروحانية الانسياق مع الغرائز البشرية والحرص على اشباعها بواسطة اقتصاد رأس المال الجشع، فكان يمتلك مئات السيارات الفارهة والطيارات ويجبى الأموال من الاتباع ويختار المحضيات ويدمن المخدرات! أما كيف جعل من الروحانية سلمًا للمادية المبتذلة؟ فإن الملاحظ لتعاليمه وكتبه ومحاضراته يجد عنده مسارين لذلك، الأول هو تسطيح تعاليم الديانات والاستهزاء بها، والثاني هو ضرب الثوابت العقلية.

ففي المسار الأول تجد خطابًا تسطيحيًا للتعاليم الدينية والأخلاقية كاستهزائه بالقول المنسوب السيد المسيح على نبينا وآله وعليه السلام: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. بغض عن النظر عن صدوره من عدمه إلا أنّ التركيز يكون هذا على عدم قبول الذوق البشري المنفعل بإدارة الخد الأيسر، دون أن يذكر أن المعنى هو احتمال الضرر لأجل كسب العدو كما توضحه الآيات الإنجيلية. وهو شبيه باستخدام خطاب تهويني استهزائي من قبيل: (تزوجني أختك متعة؟)، أو (ناسا وصلت القمر والفقهاء منشغلون بالحيض والنفاس)!

وفي المسار الثاني تجد أن خطابه يعتمد على لغة شاعرية وبلاغة أدبية تخاطب الوجدان الإنساني وتركز عليه في مقابل تسفيه الخطاب العقلي. فطبيعة البشر التي تميل إلى تبرير موبقاتها وأفعالها المخالفة للدين للتخلص من ضغط الشعور بالندم لا يمكنها ذلك إلا من خلال تهوين فعلها وإدخاله في دائرة الدين، فترى منظومة معرفية لا تبتني على قواعد صارمة ومنضبطة بل على أبيات شعرية لمولوي وابن عربي، أو على نفي أي نص صريح من خلال الادعاء بموت المؤلف وانفتاح النص على أي تأويل ونسبية الحقيقة. والتركيز على مفاهيم الرحمة الإلهية ونفي مفاهيم العقوبة الربانية وتأويل نصوصها نحو معانٍ بعيدة.

مثل هذا السلوك تجده عند الكثيرين في التاريخ والحاضر وفي المستقبل، سواء ادعوا النبوة صراحة أو صَعّدوا من أنفسهم في قِبال أقرانهم. ولهذا فإن فهم حقيقة الجمال في الولي الحقيقي يرسم الفارق لتمييز الصادق من الكاذب.
إن اتساق الدعوة مع السيرة، والإصرار على الحقيقة أمام الهوى، واحترام العقل في مقابل الغريزة، وتوظيف القوى البشرية نحو الفضيلة بدلاً من إشاعة الرذيلة، واحترام الهوية بدلاً من الميوعة، والربط بعلة الوجود بدلاً من الدعوى للنفس كلها تعضد بعضها بعضًا لتجعل العاقل على بينة واضحة بحيث لا يضيع المحجة البيضاء إلا من سَفِه نفسه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

كلامٌ حول حديث «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»