بشارة السماء (٣): الامتداد التاريخي للنَّص على الإمام الثاني عشر في كتب الشيعة
بعد أن أشرنا إلى حضور حديث الخلفاء الاثني عشر في كتب أهل السنة قبل ولادة الإمام الثاني عشر، ينبغي أن نشيرَ إلى وجود روايات النص في كتب الشيعة في القرن الأوّل والثاني، أي قبل وقوع زمن الغيبة بسنوات طويلة، فنقول:
من المعروف أنّ أصحاب الأئمة (عليهم السلام) قد دوّنوا كثيراً من الأحاديث في مصنّفاتهم، وتراكمت هذه المصنّفات حتى اجتمعت عند العلماء وعُرِفَتْ لاحقاً باسم (الأصول الأربعمائة)، وتشكل هذه الأصول محور التراث الشيعيّ بشكل أساسي.
والتجوّل في جُملتها يكشفُ عن الأسس العقائديّة والفكريّة التي مثّلت المذهب الشيعيّ، ومن المؤسف أنّ غالبية نسخ هذه الأصول لم تصلنا، حيث أدرجوا معظمها في الكتب الأربعة فقلَّ الاعتناء بها بعد تدوين الكتب الأربعة من قِبل المحمّدين الثلاثة، إلا أنّه يمكن استشكاف بعض مرويّات هذه الأصول بطرقٍ لا يهمنا بحثها الآن، وإن كان تطبيقها على الكتب المعنية بنصوص الإمامة مهم في هذا الباب، إلا أننا نرجئه إلى مقام آخر.
والذي يهمّنا في المقام، هو استشكاف النّظرة الإجماليّة للاعتقاد بالإمامة في هذه الكتب التي دوّنت خلال قرنين، والثابت من خلال كلمات العلماء والمتكلّمين الذين اطّلعوا على نسخها، أنّها أشارت إلى النصّ على الأئمة (عليهم السلام) وغيبة الثاني عشر منهم بشكل كثيف، وننقل في المقام أقوال جملة من العلماء الذين وقفوا على عددٍ كبيرٍ من الأصول الأربعمائة التي كتبها أصحاب الأئمة (عليهم السلام) في القرن الأول والثاني الهجريّ.
١. شهادة الشيخ الصدوق (رحمه الله)
(وذلك أنَّ الأئمة قد أخبروا بغيبته ووصفوا كونها لشيعتهم فيما نُقل عنهم واستُحفِظَ في الصحف ودُوِّنَ في الكتب المؤلفة من قبل أن تقعَ الغيبة بمئتي سنة أو أقل أو أكثر، فليس أحد من أتباع الأئمة إلا وقد ذكر ذلك في كثير من كتبه ورواياته ودوَّنهُ في مصنفاته، وهي الكتب التي تعرف بـ«الأصول» مدونة مستحفظة عند شيعة آل محمد عليهم السلام من قبل الغيبة بما ذكرنا من السنين) [كمال الدين وتمام النعمة، ج١، ص٤٩-٥٠).
ولا يخفى عليك أنَّ هذه شهادةٌ متينةٌ؛ لأنها صادرةٌ عمن وقع إليه كثيرٌ من أصول الشيعة القدماء من أصحاب الأئمّة ومن تلك الأصول ما ثبتت له الشهرة فاستُغنِيَ عن التحقق من اعتباره بطلب الإسناد، ومنها ما ثبت بأصحّ الأسانيد عن أجلّاء الطائفة، ومنها ما هو مشهودٌ له بالقرائن التي تورث الاطمئنان لصحّة تلك الأصول، وهي تشيرُ إلى كثافة النصوص في مصنّفات الأصحاب.
٢. شهادة الشيخ الكراجكي (رحمه الله)
(هذه الأخبار مُضَمَّنةٌ في كتب سلفهم المعروفة بالأصول عندهم، مما قد مات مؤلفوها رحمهم الله قبل الغيبة وكمال عدة الأئمة صلوات الله عليهم وسلامه، وكان الأمرُ موافقاً لما رووه من غير اختلافٍ، والإخبار بالكائن قبل كونه لا يكون إلا من الله سبحانه ويؤخذ عن رسول الله) [انظر: تحقيق رسالة الاستبصار في النص على الأئمة الأطهار، المُدرَجة في (ميراث حديث شيعه، ج٢، ص١١٧)].
٣. شهادة الشيخ الطبرسي (رحمه الله)
(ومن جُملة ثقات المحدثين والمصنفين من الشيعة الحسنُ بن محبوب الزرّاد، وقد صنَّفَ كتاب المشيخة الذي هو في أصول الشيعة أشهرُ من كتاب المزني وأمثاله قبل زمان الغيبة بأكثر من مائة سنة فذكر فيه بعض ما أوردناه من أخبار الغيبة فوافق الخبرُ المخبَـرَ، وحصل كل ما تضمَّنَـهُ الخبرُ بلا اختلافٍ) [إعلام الورى بأعلام الهدى، ص ٤٣٠].
فهذه شهادات عمّن تابع الأصول الروائيّة التي تمثل لُبَّ التراث الشيعي عقائدياً وفقهياً، ومن باب التوسّع أذكر نموذجاً من النّماذج التي تُثبت امتداد أحاديث النّص إلى القرون المتقدمة، فمن ذلك ما رواه أبو سعيد العصفري (عباد بن يعقوب الرواجني) بسنده عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنّي وأحد عشر من ولدي وأنتَ يا علي زرُّالأرض أعني أوتادها وجبالها وقال: وتد الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الأحد عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم يُنظَروا).
وهذه الرواية يرويها الشيخ الكليني في كتابه (الكافي) عن أصل عبّاد بسندٍ صحيح، وكذلك الشيخ الطوسيّ مع وجود تصحيفاتٍ يسيرةٍ عالجناها في بحوث أخرى، وهذا الأصل قد وصلنا ضمن (١٦) أصلاً وصلت نسخها إلينا، وقد حقِّق المحقق ضياء الدين المحموديّ مجموعة الأصول الستة عشر التي وصلتنا ومن ضمنها أصل أبي سعيد العصفريِّ، واعتمدَ على نُسَخٍ نفيسة قد ذكرها في مقدمة تحقيقه، منها: نسخة بخط الشيخ الفقيه المحدث المتبحر محمد بن الحسن الحر العاملي (نوَّرَ اللهُ ضريحَهُ)*.
والحاصل: إنّ هذا يشيرُ بوضوحٍ إلى أن النص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) يرجع إلى ما قبل زمن الغيبة بعشرات السنين، ويؤكد على أن نصوص الإمامة لها امتدادها العميق في التراث الإمامي القديم، ويمكن تثبيت ذلك من خلال دراسة نماذج أخرى تماثل هذا النموذج، والحمد لله رب العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق