بشارة السماء (٢): الامتداد التاريخي لنصوص الإمامة


يعتبرُ بعض المشككين في نصوص إمامة الإمام الثاني عشر أن فكرة النص على اثني عشر إمام من جملة مخترعات زمن الغيبة، ومع أن هؤلاء لا يقدِّمون دليلاً واقعيَّاً محكماً على ذلك الادّعاء، نراهم يجازفون بإطلاق النتائج، وقبل الحديث عن نصوص الإمامة والغيبة وامتدادها التاريخي في كتب الشيعة في القرون الأولى، ينبغي أن نلقي نظرة مختصرة على أجواء الحديث في كتب أهل السنة، فنقول:

مما لا شك فيه أن حُفَّاظ الحديث من أهل السنة قد دوّنوا في كتبهم حديث النبي (صلى الله عليه وآله) في النص على أن الخلفاء اثنا عشر، كلهم من قريش، وهنا ملاحظات جديرة بالاهتمام:

١. إن هذا النص قد روي في كتب سنيّة قد أُلّفت قبل ولادة الإمام الثاني عشر، فقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو داود وُلد سنة (١٣٣ هجرية) أي في زمن الصادق (عليه السلام)، ومات سنة (٢٠٤ هجرية) أي في بداية زمن إمامة الجواد (عليه السلام).
وروى الحديث علي بن الجعد في مسنده، وعلي مات سنة (٢٣٣ هجرية) أي قبل زمن الغيبة بما يقارب (٢٧) سنة، مع التنبيه على أنه لم يكتب المسند في آخر سنة من عمره.
وروى الحديث أيضاً أحمد بن حنبل، الذي ولد سنة (١٦٤ هجرية) ومات سنة (٢٤١ هجرية) أي قبل شهادة الإمام الهادي (عليه السلام) بثلاثة عشر سنة.
وفي هذا السياق، ينبغي عدّ هذا الحديث من معاجز التشيع وبراهينه الساطعة، حيث رواه بأسانيد معتبرة من انتفت لديه دواعي الكذب، وكان غافلاً عن كون هذا الحديث حجة للشيعة الإمامية، وفي هذا يقول الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه):
(ويُلاحظ هنا أن البخاري الذي نقل هذا الحديث كان معاصراً للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري، وفي ذلك مغزى كبير؛ لأنه يبرهن على أن هذا الحديث قد سُجّل عن النبي قبل أن يتحقق مضمونه وتكتمل فكرة الأئمة الأثني عشر فعلاً، وهذا يعني أنه لا يوجد مجال للشك في أن يكون نقل الحديث متأثراً بالواقع الإمامي الاثني عشري وانعكاساً له؛ لأن الأحاديث المزيفة التي تنسب إلى النبي، وهي انعكاسات أو تبريرات لواقع متأخر زمنياً، لا تسبق ظهورها وتسجيلها في كتب الحديث ذلك الواقع الذي تشكل انعكاساً له، فما دمنا قد ملكنا الدليل المادي على أن الحديث المذكور سبق التسلسل التأريخي للأئمة الاثني عشر، وضُبط في كتب الحديث قبل تكامل الواقع الإمامي الاثني عشري، أمكننا أن نتأكد من أن هذا الحديث ليس انعكاساً لواقع، وإنما تعبير عن حقيقة ربانية نطق بها من لا ينطق عن الهوى، فقال: إن الخلفاء من بعدي اثنا عشر. وجاء الواقع الإمامي الاثني عشري ابتداءً من الإمام علي وانتهاءً بالمهدي، ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف) [انظر: بحث حول المهدي:٦٦-٦٧].

٢. يُلاحظ في متن الرواية أن نفس النص النبوي كان مثاراً للجدل بين الصحابة، حيث ارتفعت الأصوات وعلا الضجيج، إلى درجة أن الصحابي راوي الحديث (جابر بن سَمُرة) لم يسمع تمام الحديث من النبي (صلى الله عليه وآله)، بل استدرك بقية كلام النبي (صلى الله عليه وآله) بسؤال أبيه الذي كان حاضراً في المجلس، ويصف جابر المشهد قائلاً: (ثُمَّ قَالَ كَلِمةً أصمَّنِيْهَا النَّاسُ)، ما يعني أن الضجيج قد ارتفعَ من الحاضرين كردة فعل تجاه ما قاله النبي (صلى الله عليه وآله) حيث علت الأصوات إلى حد العجز عن الاستماع ما حدا بالصحابي ليعبّرَ عن شدة الضجيج بكونه كالأصم الذي لا يسمع، ما يكشف عن أن هذا النص ذو حساسيّةٍ شديدة بالنسبة لبعض الصحابة الأوائل، وأنه ليس إنباءً عن عدد معين لأشخاص عاديين،.. هذا المشهد جدير بالتأمل حقاً!

٣. تميّز هذا الحديث بالاختلاف الفاحش في تفسيره عند علماء الفرق الأخرى حيث اختار كل شارح رأياً مختلفاً، مع انعدام الضابطة التي على أساسها حدَّدَ كلُّ مفسِّرٍ مصاديقه، حتّى أن بعضهم أدخلَ يزيد بن معاوية فيهم كابن تيمية، مع إشارته إلى أن هؤلاء الاثني عشر قد بشّرت بهم التوراة، فقال: (وهؤلاء الاثنا عشر خليفة هم المذكورون في التوراة، حيث قال في بشارته بإسماعيل: «وسيلد اثني عشر عظيماً») [منهاج السنة: ٢٤١:٨] مع أن هذا التبرير غير مقنع، إذ كيف يبشر الله بالفسقة ومهلكي الحرث والنسل كالخلفاء الأمويين أمثال معاوية ويزيد؟!
ولعل فطرة اليهود في التعامل مع هذه البشارة كانت أنقى وأقوم من عقلية ابن تيمية الفاسدة، فقد كان المتشرفون بالإسلام من اليهود يختارون التشيع؛ لأنهم يرون أئمتنا (عليهم السلام) المصداق الأوفى للبشارة الإلهية في التوراة، وشهد على ذلك ابن تيمية نفسه فقال: (وكثير من اليهود إذا أسلم يتشيع؛ لأنه رأى في التوراة ذكر الاثني عشر) [منهاج السنة: ٢٤٢:٨].. فسبحان الله! كيف أعمى الهوى الأموي أمثال ابن تيمية إلى درجة أن يجعل خلفاء بني أمية ممن يبشر الله تعالى بهم منذ آلاف السنين، وكيف تبصّر اليهودي بحقيقة البشارة الإلهية في التوراة.
ومن هنا، نلاحظ أن علماءنا الذين كتبوا في إثبات الغيبة اهتموا بالنص بروايته السنية وبالبشارة التوراتية، وقد نحا هذا النحو الشيخ النعماني في كتاب (الغيبة) والشيخ الكراجكي في كتاب (الاستبصار في النص على الأئمة الأطهار) وكذلك شيخ الطائفة في كتابه (الغيبة)، فراجع.

وسيأتي الكلام عن الامتداد التاريخي لنصوص الإمامة في كتب الشيعة الأوائل..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

هل ورد أن "أبا صالح" كنيةٌ للمهدي عج؟