إقامة الحدود.. جنايةٌ على الناس أم وقايةٌ لهم



لقد نقل لي أحد الإخوة الأعزّاء شبهةً تعود لشخص إلتبست عليه الحقائق فأصبح يشكّك ببعض الأحكام الشرعية وطلب منّي الإجابة عنها. وأمّا رسالة صاحب الشبهة فهي كالآتي:


"يدعون ان العيب ليس في الاسلام بل في التطبيق هل وقفت أمام مرآة وسألتها هل تؤمن بحد:-
الردة وهو القتل؟
الزاني المحصن وهو الرجم؟
قطع يد السارق؟
ضرب المرأة الناشز؟
ضرب الطفل ان لم يصلي؟
أعطني رأي الاسلام الذي تعرفه في هذه؟"

🔵 الجـــــواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

🔴 لم يضع هذا المستشكل إصبعه على محلّ الإشكال بالتحديد، فلقد ألقى مجموعةً من الأسئلة بلسان المعترِض والرافض لتشريعات إسلامية من دون أن يبيّن وجه اعتراضه هذا.

ونحن هنا يمكن أن نفسّر إشكاله بأحد وجهين:

▪️الأول: بأن نحمل كلامه على أنه رافض لمبدأ الحدود في الإسلام من رأس، فكأنّه يقول: إن الدين الذي يشرّع حدّا من الحدود فهو يقف أمام الحريّات الشخصية للآخرين ويكون حجر عثرةٍ في طريقهم وأنّه لا يمكن التعبّد بمثل هذا الدين.

▪️الثاني: بأن نحمل كلامه واعتراضه على عدم التناسب بين الجناية والحدّ الشرعي، فقد يرى أن مثل هذه الجنايات لا تستدعي ردّ فعل عنيفٍ ومغلّظٍ من قِبَل المشرِّع.

🔹وللجواب عن الفرض الأوّل نقول:

إنّنا نعتقد أن الإسلام دين سماويّ وهو خاتمة الشرائع الإلهية، وهو النظام الأكمل الذي وضعه الله عزّ وجلّ لخلقه، والذي بتطبيقه تتحقق العدالة وينبسط الأمن ويعمّ السلام أرجاء البسيطة وتصل الحقوق لأهلها.

ولقد خلق الله الإنسان مركّباً من عقل وهوى، يتصارعان فيه على الدّوام، وهي معركة الخير والشرّ الحامية الوطيس التي لا انقطاع لها ما دام الدم في العروق.

بناءً على ذلك فيمكن للعقل أن يتغلّب على الهوى فيأخذ بصاحبه نحو السموّ والرّفعة والفضيلة، ويمكن كذلك أن يتغلّب الهوى على العقل فيأخذ بصاحبه نحو الخسّة والدّناءة والرذيلة.

وإذا كانت حال الإنسان كذلك، فمن الطبيعيّ - وممّا تقتضيه الفطرة الإنسانية والعقل السليم -، أن تُقنّن القوانين وتُقعّد القواعد وتُرسّم الحدود وتُؤطّر النُّظم؛ كبحاً لجماح هذه النفوس الثائرة وحفاظاً على أمن وسلامة واستقرار وطمأنينة الأفراد والمجتمعات من الناحية الفكرية والسلوكية والنفسية والجسدية.

ومن أجل ذلك تجد كل الدّول، الإسلامية منها وغير الإسلامية، ومن أوّل نشوء الحضارات إلى يوم الناس هذا عاكفةً على وضع قوانين ودساتير ونُظم تحفظ حقوق الناس وأمنهم واستقرارهم، وتتفنّن في وضع العقوبات الرادعة عن انتهاك حقوق الآخرين والمانعة من الفساد والإفساد، والتي تكفل لهم ما يُؤَمّنهم ويرغد عيشهم.

🔻ولكن هذه القوانين التي يضعونها تبقى قوانين وضعية خاضعة لاجتهاد واضعيها، لذا تجد فيها تفاوتاً رهيباً واختلافاً شاسعاً من مكانٍ إلى مكان ومن زمانٍ إلى زمان، الأمر الذي يجعلك تحكم بعدم صلاحيّة وأهليّة وبعد نظر هؤلاء الواضعين.

من هنا، فلن تركنَ النّفْس ولن يهدأ البال ولن يطمئنّ القلب إلا بالرّجوع إلى ركنٍ ركين وحبلٍ متين وهدىً مبين، بالتمسك بهدي الوحي ومقرّرات السماء وتعاليم ربّ الأرباب؛ لأنه هو الخالق وهو الأعلم بدوافع خلقه نحو الرذيلة والجريمة والإفساد وانتهاك الحقوق وغير ذلك وهو الجدير بوضع تلك القوانين والنّظم الكابحة لجماح نفوسهم، والمانعة والرادعة عن المساس بأمنهم واستقرارهم.

✔️ونتيجة ذلك، أن المقدار المتّفق عليه والمسلّم به والذي يحكم به العقلاء هو ضرورة وجود قوانين وأنظمة تحفظ مسيرة الإنسان وتساهم في تكامله ورقيّه. غاية ما هنالك فإنّه يقع الخلاف في المقنّن نفسه هل هو الخالق أم خلقه؟ وبيّنا أنه لا وجه للمقايسة بين الإثنين، فتدبّر.

🔸 وأمّا الجواب عن الفرض الثاني:

فلقد اتّضحت بعض جوانب الجواب عن الفرض الثاني من خلال ما قدّمناه في الجواب عن الفرض الأوّل، وهو إنّنا باستعراض أوضاع الدّول المختلفة قديماً وحديثاً نجد تفاوتاً واضحاً وملموساً من حيث الحدود التي يضعونها كجزاءاتٍ للجرائم والتّعدّيات والتجاوزات والانتهاكات، فقد تجد عقوبة السرقة في بعض الدول هي السجن لمدة خمس سنوات مثلاً، وفي بعضها السجن لمدة ستة أشهر، وربّما لمدة شهرٍ واحد في بعضها، وكذا الحال في جريمة القتل العمدي، فقد تجد القتل هو الحد الّذي يقام على القاتل في بعض الدّول، وقد يكون السجن المؤبد هو الجزاء الّذي تعتمد عليه دولٌ أخرى، وقد لا يكون هذا ولا ذاك في طائفةٍ ثالثة من الدول. وهكذا الحال تماماً في كل الجرائم الأخرى!

🔻 إنّ مثل هذا التفاوت والتّذبذب الذي لا تجد فيه ضابطةً على الإطلاق، هو الّذي يجعلنا نقطع بعدم أهليّة الذهن البشري لتحديد مقدار العقوبة ونوعها وكيفيتها، ويجعلنا نجزم بأن تأثير مثل هذه العقوبات على المستوى الفردي والمجتمعي ولمدة بعيدة هو فوق معرفة وإدراك البشر أصلاً. وسيسير المجتمع حينئذٍ نحو التسافل والتحادر لا نحو التكامل والرقيّ على الصعيد السلوكي والأخلاقي والنفسي والفكري، وغير ذلك.

إنّنا بعد أن أدركنا حاجة البشرية لإيجاد القوانين والنّظم التي تحفظ المجتمعات وتؤمّنها وتساهم في تطورها ورقيّها، وبعد أن عرفنا استحالة قدرة البشر على سنّ مثل هذه القوانين الرادعة من جهة والمحافظة على النّظام الإجتماعي من جهة أخرى، سوف ندرك لا محالة أن الطريق الذي يؤدي إلى هذا الهدف هو الطريق الوحياني الغيبي المتصل بالحكيم العليم المطلق. وذلك من خلال الدساتير والقوانين التي شرّعها الله عزّ وجلّ للنّاس عن طريق النبي محمدٍ وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

🔹 وإن هذه الأحكام الشرعية بمطلقها تنقسم إلى قسمين، منها ما هو منصوص العلّة، أي أنه قد بُيّنت العلّة الواقعية لتشريعه، كما في الخمر مثلاً فإن حرمته معلولة للإسكار، ومنها ما هو غير منصوص العلّة، كالحدود التي نحن بصددها.

ونحن في مقام الإمتثال يلزمنا العمل بكلا النوعين من الأحكام، سواءٌ كانت منصوصة العلّة أم لم تكن؛ لأنّنا قد حقّقنا في رتبةٍ سابقة لزوم الإنقياد التّام والطاعة المطلقة لساحة الحقّ تعالى سواء انكشفت لنا علل الأحكام أم لم تنكشف. إلّا أن يقول المستشكل: لم يثبت عندي وجوب طاعة الله عزّ وجلّ. فسننقل الكلام معه حينئذٍ إلى إثبات وجوب طاعته سبحانه وتعالى.

بناءً على هذا، فالأمر بلزوم إقامة الحدود الشرعية هو كالأمر بلزوم إقامة الصلاة وصوم شهر رمضان وحج بيت الله والجهاد في سبيله، فكلّها أمور تعبّدية محضة، يقوم بها العبد امتثالاً لأمر مولاه.

ثم إنّ هذه الأحكام الغير منصوصة العلّة إما أن تظهر لنا بعض الحِكَم والثمار منها وإمّا أن لا تظهر، وفي كلا الحالين فنحن ملزمون بالامتثال والانقياد لِمَا حقّقناه في الرتبة السابقة من لزوم الطاعة المطلقة.

🔶 والأحكام التّي طرحها المستشكل محلّا للإشكال هي من قسم الأحكام الغير منصوصة العلّة والتي يمكن أن نجد فيها بعض الحِكم والثمار عند تأمّلها وإمعان النّظر فيها. وسنعلّق على كلّ واحدةٍ منها باختصار.

🔹 فأمّا حدّ الردّة، فهو القتل مباشرةً من حين الإرتداد فيما لو كان المرتدّ (فطريّا)، أي أنه تولّد من أبوين مسلِمَين، واستتابته لمدة ثلاثة أيّام فيما لو كان المرتدّ (ملّيّاً)، أي أنه تولّد من أبوين كافرَين فأسلم ثم ارتدّ، فلو تاب لم يُقم عليه الحد، وإلا فيُقتل بعد اليوم الثالث.

وهذا كلّه فيما لو كان المرتدّ متظاهراً بارتداده ومتجاهراً به، ومنه يُعلم أن الذي كان مسلماً ثمّ جهر بارتداده فإنّه كالخليّة السرطانية في جسد الأمّة، فإن لم تُستأصل فإنّها ستأخذ بالتزايد والانتشار، وستساهم بانبثاق خلايا أخرى في أماكن أخرى، وستقوم على إغواء الآخرين وتشكيكهم وتضليلهم، ولذا اتخذ الإسلام موقفاً شديداً من الرِّدة؛ لبقاء الدّين الذي يريد الله عزّ وجلّ له البقاء ليتحقّق منه الغرض الإلهي وهو تحصيل السعادة لبني الإنسان في الدارين.

🔹 أما حدّ القتل رجماً للزاني أو الزانية المحصنَين، فمّما يمكن أن نجده بشكل واضح لو وقع الزنا بالمحصنة هو اختلاط الأنساب في حال وقوع الحمل، وربّما يُنسب الطفل إلى غير أبيه حينئذٍ، الأمر الذي أولاه الشارع المقدّس عنايةً كبيرةً ورتّب عليه أحكاماً شرعيةً كثيرة.

وهذا كلّه فيما لو أبقت المرأة على جنينها، والحال أنه في أغلب الأحيان تقوم بإسقاطه وقتله خوفاً من العار والشنار، فبدل أن يقتصر جرمها على الزنا، ستصبح زانيةً وقاتلة!

وقد يقال: هذا بالنسبة إلى المرأة فما بال الرجل المحصَن يُقتل رجماً؟
والجواب: إن الرجل المحصَن الذي أنعم الله عليه بزوجة وأمرها أن تقوم على خدمته وتلبية حاجته، ومع ذلك أقدم على الفاحشة التي نهى الله عنها بالنهي المغلّظ وأمر بالانزجار عن مقدّماتها فضلاً عنها بنفسها، يكون قد تجرّأ على الذات الإلهية بنفسها ببجاحة ووقاحة، وتجاوز كل الخطوط الحمراء، وقد استحق القتل بأبشع الصِّور. وهذا كذلك ينطبق على المرأة المحصنة سواء حملَتْ أم لم تحملْ. وهناك آثار أخرى تظهر بالتأمل، طوينا عنها طلباً للاختصار.

🔹 أمّا حدّ السرقة فقطع يد السارق، ولكن بشروط:
أوّلها العقل، فلا تُقطع يد المجنون، وثانيها البلوغ، فلا تقطع يد الصبي، وثالثها الإختيار، فلا تقطع يد المضطر والمكره. ورابعها أن لا يكون المال المسروق في مكان عامّ، بل لا بد من كونه في مكان خاصّ عرفاً كما لو كان في بيت أو في حانوت، وكسر السارق القفل فسرق، فحينئذٍ تُقطع يده، ومقدارها الأصابع الأربعة دون الإبهام والراحة من اليد اليمنى، ولو سرق مرّة أخرى بعد قطع أصابعه فإنه تُقطع الرِّجل اليسرى من قبّة القدم، ولو سرق ثالثةً بعد قطع الرِّجل اليسرى فإنه يُحبس موّبّداً، ولو سرق في السجن يُقتل.

إنّ السّرقة في واقعها تعدٍّ على الآخرين بسلبهم أملاكهم ونهبهم أموالهم، ولو لم يَردع الشارع الأقدس عن هذه الجريمة لانتشر الفساد والإفساد والهرج والمرج، وكلٌّ يعمل بما تسوّل له نفسه. ويظهر من ذلك أن في تشريع حدّ السرقة حفظاً للمجتمع وأمواله من تعدي الآخرين وتجاوزهم، ووأداً للفتنة التي يمكن أن تقع بسبب السرقة، حيث إن الذي سُرقت أمواله سيثأر لنفسه مطالباً بماله، وقد يقع القتل جرّاء ذلك. ولكن ما إن يرى أن الحدّ الشرعيّ قد أقيم على السارق ستهدأ فورته وتركن نفسه.

🔹 وأمّا ضرب الزوجة الناشز فهو آخر الحلول التي يجوز للزوج اللجوء إليها بضوابطها، فلا بدّ أولاً من وعظها ونصحها بالكلام الليّن، فإن لم تنتصح ولم تتعظ فيهجرها في المضجع، كأن يحوّل إليها ظهره، وإن لم ينفع فيعتزل فراشها إذا كان يشاركها فيه من قبل، وإن لم يُجدِ ذلك فيضربها بشرط أن يُؤمّل رجوعها إلى الطاعة وترك النشوز، وإلا فلا يجوز الضرب. ويقتصر على أقلّ مقدار يحتمل معه التأثير، فلا تجوز الزيادة عليه مع حصول الغرض به، وإلا تدرّج للأقوى فالأقوى ما لم يكن مدمياً أو موجباً لاحمرار البدن أو اسوداده، ولا بد أن يكون بقصد الإصلاح لا التشفّي والانتقام، ولو حصلت جناية في الضرب وجب الغرم.

هكذا هي فتوى مشهور العلماء رضوان الله عليهم، وعلى ذلك نعرف أنه لا بدّ من التدرّج في معالجة نشوز الزوجة لا اللجوء إلى الضرب من أوّل الأمر، علماً أن النشوز في حقيقته هو إخلال بأحد الأغراض الأساسية التي من أجلها شُرّع الزواج، وهو إشباع الغريزة الجنسية بالطريقة المحلّلة التي وضعها الله عزّ وجلّ لذلك، وبدلاً من أن يلجأ الزوج إلى هدم أسرةً بكاملها ويقوم بتشتيت أفرادها بتطليقه الزوجة الناشز، وضع الله الحكيم حلولاً مجدية في إبقاء الأسرة والحفاظ عليها ما أمكن.

🔹 وأمّا ضرب الطفل عند عدم الصّلاة فله ضوابط شرعيّة، وليس الباب مفتوحاً على مصراعيه، ولا يُلجأ للضرب إلا بعد نصح الطفل ووعظه، فإن لم يتّعظ فلا يضربه إلا أبوه، وليس من حق أحدٍ ضربه، لا الأم ولا الأخ ولا العمّ ولا الخال ولا غيرهم، ولو أراد أن يضربه أبوه فلا يزيد عن ثلاث ضربات غير موجبات لحمرار بدنه أو اسوداده، وأن يضربه في موضع لا يحصل فيه الأذى عادةً، وأن لا يكون بقصد التشفّي والانتقام بل بداعي التأديب والتهذيب.

🔶 ومن كل ما تقدّم يظهر بوضوح وجلاء وبما لا يدع مجالاً للشكّ والارتياب أن القسوة والغلظة والشِّدّة ليست غرضاً بحدّ ذاتها للشارع الأقدس، وإنما غرض الشارع يكمن في بناء المجتمع بناءً رصيناً متوازناً يسير نحو الكمال والشموخ والعظمة، وإن وقوع العقوبات على المجترئين والمجرمين والمتجاوزين ليس إلا طريقاً لعظمة وكمال ورقيّ المجتمع. وهو معنى قوله تعالى: "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة: ١٧٩].
أي إنكم بإقامتكم حدود الله وقتلكم من يستحقّ القتل، تكتبون الحياة لأمّة بأسرها بشعوبها ومجتمعاتها وأفرادها. وهنا تجلٍّ لعظمة الإسلام حيث تبرز دقّة نظره وعمقها وبُعدها في سَنّ القوانين الكفيلة بتحقيق ذلك الغرض العظيم.

والحمد لله رب العالمين ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

كلامٌ حول حديث «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»