إن كُنتَ تقيًّا
بسم الله الرحمن الرحيم، { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا }(1)، الخطاب من السيدة مريم (ع) إلى جبرئيل (ع) الذي تمثّل لها في صورةٍ بشريّة، والسؤال هنا: ما معنى { إِنْ كُنتَ تَقِيًّا }؟
هناك ثلاثة آراء في هذه المسألة:
- الرأي الأول: وهو الرأي المشهور والأوفق بالسياق، قالت بشجاعةٍ ورباطة جأش في هذا الموقف الصعب، وتوجّهت إلى ذلك البشر قائلةً: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت من أهل التقوى، مطيعًا لله، تخاف عقوبة الله، متجنبًا لما يُغضبه، فإني عائذةٌ بالله منك فاتّعظ بتعوّذي، وخوّفته من الله؛ لأنها لا تملك وسيلة لردعه في مقامها هذا سوى التخويف من الله، وإلا فهي مستجيرةٌ بالله متوكلةٌ عليه، سواء أ كان الذي خافته تقيًا أم شقيا، التقي ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، ويرجع عن نزعة الشيطان، وقد كانت ملامح التقى ظاهرةً على الملاك، وقد لمحت مريم (ع) مظاهره التقوائية؛ فالمؤمن ينظر بنور الله، وهذا من قبيل الاشتراط بوصفٍ يدَّعيه المخاطب لنفسه أو هو محّقٌ فيه ليفيد إطلاق الحكم المشروط، والتقوى وصفٌ جميلٌ يشقُّ على الإنسان أن ينفيه عن نفسه ويعترف بفقده، فيكون المعنى: إني أعوذ وأعتصم بالرحمن منك إن كنت تقيا، ومن الواجب أن تكون تقيًا، فليردعك تقواك عن أن تتعرَّض بي تقصدني بسوء.
- الرأي الثاني: قيل: إنه كان في ذلك الزمان رجلٌ فاجِرٌ اسمه "تقي" يتتبّع النساء، وكان مشهورًا بالفجور، فظنَّت مريم (ع) أنه هو حيث رأته لا يتّقي من النظر إلى الأجنبية. أقول: وهذا رأي مرفوضٌ تمامًا لكونه خلاف الظاهر ولا قرينة تؤيده، لا قرينة داخلية قرآنية، ولا خارجية روائية.
- الرأي الثالث: قيل: "إنْ" نافيةٌ هنا، والمعنى: ما كنتَ متَّقيًا من الشرِّ؛ لأنك نظرت إلى ما لا يجوز لك النَّظر إليه.
تنبيهٌ أخلاقي: لمّا رأت مريم (ع) غريبًا في خلوتها، مباشرةً اعتصمت بالله تعالى، ممّا يعني أنّ جرس الإنذار الإلهي في وجدانها قرع ناقوس الخوف من المعصية والسوء، تمامًا كما في قصة يوسف (ع)، مباشرةً { قَالَ مَعَاذَ اللّهِ }(2) هذا هو الذكر الحقيقي لله تعالى. هناك من البشر من تلف جرسُ الإنذار الباطني في وجدانه، فلا يشعر بتقوى الله، ولا يحُسُّ بأنه في أجواء المعصية أو مقدماتها، علينا أن نتفحَّص جرس الإنذار الإلهي في بواطننا، لنتأكَّد من أنّه يعمل؛ فإنه كجرس الإنذار من الحريق، ولكن ليس كأيّ حريق، إنه حريق نار جهنّم.
تعليقات
إرسال تعليق