الخبر التاريخي وداء الاستعجال
المسيرة التصحيحية لغربلة السيرة الحسينية من الأخبار الموضوعة والمزيّفة جهدٌ لا يتأتى إلا لمن تعمق في أكثر من علم (كاللغة والأدب والتاريخ وفلسفته والفقه وأصوله والكلام وتوابعه)؛ أقول ذلك لأن كثيرًا ما اطلعت على حوادث واقعية وجدانيّة كذّبها بعضٌ ببنات عقله إلا أنها واقعية وصحيحة.
سأضرب لكم مثلًا برحّالة كتب منذ قديم الزمان أنه رأى سمكًا يخرج ليلًا من البحر ويتسلق الأشجار ويأكل ثمارها ثم يرجع إلى البحر! من يتحاكم للعقل يكذب هذا؛ وله الحق كلّ الحق، إلا أنَّ حكم العقل بالتكذيب لم يترك منطقة فراغ للتراجع كالقول بعدم استحالة مثل هذا الأمر (أقصد نفي الاستحالة العقلية)!
ومن الطبيعي أنْ أصيب هؤلاء المكذبين بصدمة كبرى لمّا رأوا مقطعًا وثائقيًا يصوّر هذه الحادثة ويعلّق عليها متعجبًا مندهشًا! وقد رأيتُ ذلك في (تويتر)!
أريد من كل هذا أنْ أخرج بعدة نقاط:
١. عدم الاستعجال بالنفي العقلي دون ترك منطقة فراغ للإمكان.
٢. لا بد للمنتقد والمستشكل على الباحث المحقق أنْ يلم بجوانب علمية تؤهله للحكم.
٣. لا بد للكل أن يفهم طبيعة البحث التاريخي، لا سيما في التراث الإسلامي، فالتاريخ لم ينحصر تدوينه على كتب التاريخ فقط! بل لا بد من مراجعة كتب الأدب كالأغاني مثلًا، والجغرافيا ككتاب ياقوت الحموي، والكتب التي تدرس الحالة الاجتماعية للعرب وتصرفاتهم وفي (العقد الفريد) فسحة في هذا الجانب.
٤. لا بد من ولوج التاريخ بمنهج؛ فكما أنّ للدرس اللغوي مجالات بحثية فكذلك للدرس التاريخي.
كتبتُ هذا وقلبي يعتصر ألمًا لما رأيت من إنقاصٍ لبعض المحققين الفضلاء الذين يحاولون غربلة التراث وبيان واقعية السيرة الحسينية ويتصدون للدفاع عنها.
ثم إنّي أعقب أخيرًا بتعقيب: من الخطأ تكذيب الخطيب! فليست كل حادثة لا تلم بجوانب وقوعها تكذبها! فكل حادثة لها سياقاتها التي تؤهل وقوعها! وفي ذلك نشأت مدرسة سياقية قادها فيرث في مجال الحادثة اللغوية فما بالك بالحادثة التاريخية الأشد تعقيدًا!
تعليقات
إرسال تعليق