العقل مبررًا للحداثة



بعد أكثر من ألف سنة من الإسلام، ومن التراث الروائي العظيم، ومن كتابات ونتاجات علماء الدين العلمية المفيدة، لا تزال أهم الإشكاليات على الدين لا تخرج من دائرة العدل الإلهي: مسألة الشر والقضاء والقدر.
فهل النقص هو في الدين؟ أم في نصوصه؟ أم في قدرة العلماء على الاجابة، وإيصال الاجابة، على هذه الاشكاليات؟

الواقع أنه لا شيء من ذلك. تكمن المشكلة في العقل المتسائل، فطبيعة عقولنا أنها متسائلة وتندفع نحو التساؤل في كل شيء وبأي شيء لكن عقولنا لا تقدم الأجوبة بقدر السؤال، وليس من مسؤليتها توليد الاجابة قدر البحث عنها. العقل كالمعالج، يحتاج لبيانات والبيانات تحتاج لتصفية قبل المعالجة ومن هنا تبرز أهمية التأسيس العلمي وتهذيب النفس، فهي الأدوات المساعدة على تنقية هذه البيانات للوصول إلى ما يصلح ممّا لا يصلح للمعالجة، فالمعالجة بحد ذاتها لا فائدة منها دون مادة قابلة لها.

مشكلة الناس أنهم يظنون العقل كافيًا للاستقلال والحكم، وقولهم هذا هو نظير القول بأن القانون يكفي لضبط المجتمع حتى وإن لم يستعن بقوة تنفيذية كالشرطة وقوة قضائية تطبق مفاهيم القانون على مصاديقه الخارجية. والواقع أن ذلك لا يمكن.
والناس الذين يؤمنون بالقانون وتجدهم لا يلتفتون إلى عجز القانون ذاته ويعتبرون تلك الأجهزة المساندة لوازم لابد منها، كثيرٌ منهم يندفعون مع دعوى أن العقل وحده كافٍ، ويقدمون ذلك بشعارات وأقوال متعددة: الله كرمنا بالعقل، حَكّم عقلك، شغل عقلك.. إلخ. دون أن ينظروا للوازمه كما ينظرون للوازم القانون. وهذا الأمر بهذه السّعة برأيي أمر متعمد لا عفوي، يهدف إلى تحويل مرجعية الإنسان إلى مرجعية ذاتية في كل الأمور!

الواقع أنه ليس هناك عجز في الاجابة على هذه المسائل المذكورة، فالكتب مملوءة، لكن هناك عجز في التوجه لها، وعجز في طلب مقدماتها، وتوهمٌ بأن العقل مستقلاً بذاته كافٍ وواف للحكم في أعقد المسائل وأصعبها دون تحصيل مقدماتها أو فهم ورودها في الشريعة أو استيعاب علاقة الغيب بالشهود.
فالتأسيس العلمي هو الاطلاع على مخزون التراث الروائي والمصادر الدينية مع امتلاك آليات الفهم، وتهذيب النفس هو العمل على تنقية النفس من شوائب الأنا والذات لضمان عدم التوظيف، ومراعاة عدم الانحياز وأُحادية الرؤية الذاتية للنصوص.

إن دعوى استقلالية العقل في كشف المعارف عند الملتزم بدينٍ ينفيها اعترافه بالحاجة إلى الوحي - وهو من خارج العقل - لمعرفة أصول الاعتقاد، وينفيها استناده إلى سنن النبي في الوصول إلى ما يلتزم به من عبادات، لذا فالاكتفاء بالتساؤل حول تفاصيل الاعتقادات ورسمها استنادًا إلى العقل وحده هي مغالطة تنزع العقل من دوره الأساس وهو التساؤل دفعًا لطلب الأجوبة من مظانها لا السؤال دفعًا إلى التشكيك وصولاً لتبرير ضرورة الحداثة بأسسها المعلومة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

هل ورد أن "أبا صالح" كنيةٌ للمهدي عج؟