يا اُخت هارون..


سأل أحد الإخوة: السلام عليكم شيخنا، أحد الأخوة المسيحيين نشر هذا البوست على صفحته، هل من تفسير وإيضاح لما جاء به! دمتَ بخير.
نص دعوى صاحب المنشور:

هناك شخصيتان في الكتاب المقدس باسم مريم، الأولى نبية وهي مريم بنت عمران وأخت هارون وموسى المذكورة في القصة، والأخرى هي مريم بنت ياهوياقيم وأم المسيح يسوع.
محمد توهم بأنهما شخصية واحدة بينما هناك قرابة الألف سنة بينهما.

وكان الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله.
يلاحظ على هذه الإثارة مجموعة أمور:
أولاً: إنها ليست جديدة، وإنما مأخوذة من إثارات المستشرق سانت كلير تيسدال في كتابه (مصادر الإسلام، ص 102- 104). وقد حسب أنه جاء بإنجاز عظيم، والحال أن القاضي عبد الجبار المعتزلي تعرّض للمسألة في كتابه (تنزيه القرآن عن المطاعن) وذكر جواباً لها.
وهنا بودي أن أشير إلى أن كثيراً مما يسمى بالإثارات والإشكاليات التي تطرح على القرآن الكريم والدين الإسلامي هذه الأيام بفعل عوامل اجتماعية ونفسية، ليست جديدة، وإنما قديمة قدم القرآن نفسه، وقد تعرّض لها المفسّرون وعلماء الكلام وأجابوا عنها في مجاميعهم التفسيرية والكلامية.
قال القاضي عبد الجبار: (وربما قيل في قوله تعالى: يا أخت هارون.."، كيف يصح أن يقال لها ذلك وبينها وبين هارون أخي موسى الزمان الطويل؟ وجوابنا...). وجاء في كلام سانت كلير تيسدال: "فلا شك أن محمداً توهم أن مريم أخت هارون التي كانت ابنة عمران هي نفسها مريم التي صارت أم يسوع بعد ذلك بنحو ألف وخمسمأة وسبعين سنة، وهذا خطأ جسيم، لأنه لم يقل أحد من اليهود أن مريم أخت هارون وابنة عمران بقيت على قيد الحياة إلى أيام المسيح.
ولو أننا لم نناقش في نوايا تيسدال فلا شك سننسبه للجهل والغباء، وكأن مثل هذا الخطأ الفاحش الموهوم عند تيسدال قد خفي على العرب الذين كانوا يعيشون إلى جوار اليهود وبين ظهرانيهم طيلة قرون، وكذا الحال بالنسبة لنصارى نجران والأحباش! وكأن نبي الإسلام النابه البصير بمستوى تيسدال حتى يخفى عليه ذلك ويتصور أن مريم ام المسيح هي نفسها اخت موسى وهارون، أو أنه يخترع ذلك ولا يتوقع أن العرب واليهود والنصارى سيلتفتون لذلك!!

ثانياً: نفس هذا التساؤل عن التشابه وقع في أيام النبي حسبما نقل لنا ذلك السيد ابن طاووس عن كتاب غريب القرآن لعبد الرحمن الأزدي الكوفي من رجال القرن الثالث! عن المغيرة بن شعبة: قال: بعثني رسول الله الى أهل نجران: فقالوا: أرأيت ما تقرأون "يا أخت هارون"، وهارون أخو موسى بينه وبين عيسى المسيح بكذا وكذا؟ قال: فرجعت وذكرت ذلك لرسول الله فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بالأنبياء والصالحين قبلهم. (سعد السعود، ص 221). وأخرجه ابن أبي شيبه ومسلم والترمذي والنسائي وابن المنذر وابن حبّان والطبراني وابن مردويه والبيهقي.
وقد توهمت السيدة عائشة يوماً أن مريم أم عيسى هي أخت موسى، فنبهها كعب الأحبار بأنها غيرها للفصل الزمني الكبير بينهما، وإنما هو من تشابه الأسماء فرجعت عن ذلك. (الدر المنثور، ج5 ص 507).
وهذا يعني أن مثل ذلك لم يكن خافياً في عهد نزول القرآن وما بعده حتى يأتينا تيسدال وأمثاله من أهل السفاسف في مؤخرة الزمان لجعلوا من أوهامهم شنعة على القرآن ونبي الإسلام!!

ثالثا: إن التسمية بأسماء الآباء والأمهات تشريفاً بهم أمر معروف كما نقلنا في حديث النبي. وقد كان هارون سيد قومه وله شأن عظيم في بني إسرائيل. وكان أول رأس الكهنة الذي ترأس في اللاويين أكبر قبائل بني إسرائيل (قاموس الكتاب المقدس، ص916).
أضف لذلك أن أمّ مريم وهي أخت اليصابات أم يحيى، كانت من نسل سبط لاوي من نسل هارون (قاموس الكتاب المقدس، ص 795)، فأم عيسى من جهة الأم منتسبة لهارون، فالتعبير بأخت هارون معاتبة لها بشرف انتسابها لهارون سيد قومه وصاحب الشأن العظيم.
ويمكن أن يكون توصيفها بأخت هارون تشبيهاً لها بمريم أخت موسى لمكان قداستها وكونها ذات وجاهة وكانت تدعى أخت هارون، ويعبّر عنها بالنبية كهارون أخيها (سفر الخروج، اصحاح 15/ 20). وكانت أكبر من موسى بعشر سنين، وهي التي قالت لها أمها: قُصيه، في مسألة وضع تابوت موسى في نهر النيل.
فيكون المعنى: إنك تماثلين الصديقة مريم اخت هارون وموسى فكان جديراً بك المحافظة على هذا المقام.

ورابعاً: أما والد مريم أم عيسى، فلم يرد في الإنجيل عنه  شيئ سوى أنها من سبط يهوذا من نسل داود، ولذا ليس من البعيد أن يكون اسم والدها عمران (عمرام)، وقد كانت التسمية بهذا الاسم شائعة عند الإسرائيليين، ولم يعترض اليهود والنصارى زمان نزول القرآن على تسمية والد مريم بعمران ولم ينكروا ذلك.

نحن نعتقد أن القرآن الكريم قد جاء بالصفو الصحيح من آثار الأنبياء والصديقين وقصصهم بعيداً عن أقاصيص العهدين وابتذالهما بما لا يعرفه أصحاب الديانات المعاصرة لنزوله. ولذلك يقول تعالى: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك.

وبالمحصلة فما توهمه صاحب الإثارة المكرورة، لا أساس له.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

كلامٌ حول حديث «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»