كيف يستجيب أبو ذر لضيافة عليٍ (ع) مع حداثة سِنّه؟


سأل أحد الإخوة: كنت أطالع في بعض كتب السيرة فوجدت أنّ أبا ذر الغفاري عندما أراد أن يتعرّف على النبي (صلّى الله عليه وآله) في بداية الدعوة السرية، ويعلن إسلامه له، قد التقاه الإمام علي (عليه السلام)، وكان مضطجعاً في ناحية المسجد الحرام، فأخذه الإمام واستضافه ثلاثة أيام، مع العلم أنّ الإمام كان له من العمر آنذاك بين العاشرة والثانية عشر، فكيف لرجل مثل أبي ذر أنْ يقبل استضافة ولدٍ صغير، أو أنّ ذلك كان طبيعياً في ذلك الوقت؟

والجواب:
☆ اعتاد العرب في نقلهم للقصص والأحداث أنْ يقتصروا على الحدث المهم الذي سيق النّقل لأجل بيانه، ويغفلوا ذكر الأحداث الهامشية التي لا يكون لها ارتباط بأصل المطلب، وهذا ما يُسمّى في البلاغة بأسلوب الإيجاز. ونشاهده بوضوح في الآيات القرآنية القصصية. ففي سورة يوسف نماذج متعددة لهذا الأسلوب، أقتصر على الإشارة للمثال التالي: قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}. ففي هذه الآيات المعدودات أفاد المطلب الأساس منها، وهو: أنّ إخوة يوسف تآمروا عليه، ولفّقوا قصّة الذئب لوالدهم؛ حسداً منهم وبغياً. ونرى الآيات قد أغفلت طريقة وضعه في البئر، وماذا كان موقف كلّ واحدٍ منهم، وما هو الحوار الذي جرى بينهم، وماذا حصل ليوسف عليه السلام وهو في غيابت الجب، و...؟ كل ذلك لم يذكر؛ لعدم تعلّق الغرض الأصلي من الكلام به.

⊙ وفي مورد السؤال، النصّ التاريخي المنقول في بعض كتب التاريخ حول كيفية إسلام أبي ذر، من أنّه كسائر قبيلة غفار، كان يسكن في وادٍ قريبٍ من مكة، وكان يمقت عبادة الأصنام،  وتناهى إلى سمعه أخبار النبي الجديد، فقال لأخيه: انطلق إلى مكة، وقف على أخبار هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، وأنّه يأتيه وحي من السماء، واسمع شيئاً من قوله واحمله إليّ. فذهب أنيس إلى مكة، والتقى بالرسول صلى الله عليه وآله،  وسمع منه، ثم عاد إلى البادية فتلقاه أبو ذر في لهفة، وسأله عن أخبار النبي الجديد في شغفٍ، فقال: لقد رأيت والله رجلاً يدعو إلى مكارم الأخلاق، ويقول كلاماً ما هو بالشعر. فقال له: وماذا يقول الناس فيه؟ فقال: يقولون: إنّه ساحر، وكاهن، وشاعر. فقال أبو ذر: والله ما شفيت لي غليلاً، ولا قضيت لي حاجة، فهل أنت كافٍ عيالي حتى أنطلق فأنظر في أمره ؟ قال: نعم، ولكن كن من أهل مكة على حذر. والخلاصة: شدّ رحاله إلى مكّة، وعندما وصل إليها كرِه أنْ يسأل أحداً عن الرسول الجديد، مخافة أنْ يكون من قريش التي تناهى إلى سمعه تنكيلها بمن آمن به. وعندما جنّ الليل اضطجع في ناحية المسجد، فمرّ به علي بن أبي طالب عليه السلام، فعرف أنّه غريب فقال: هلمّ بنا أيها الرجل، فمضى معه وبات ليلته عنده، وهكذا في الليلة الثانية والثالثة، إلى آخر ما جاء في كتب التاريخ.

⊙ وأمّا تبرير استجابته لاستضافة أمير المؤمنين عليه السلام له مع كونه حَدَث السنّ، فبعد الالتفات إلى ما ذكرته من أسلوب الإيجاز في سرد القصص والأحداث، يمكن أنْ يكون هناك مجموعة من المبررات المنطقية أغفلت في النقل التاريخي؛ لكونها خارجة عن الغرض الأساس. أُشير إلى بعضها كاحتمالات لا مانع من صدقها معاً:
¤ منها: أنّه فَهِمَ من سياق الحديث معه أنّه ابن شيخ البطحاء الذي كان ذائع الصيت ليس فقط في مكة وأطرافها، بل في تمام الجزيرة العربية، وشيخ البطحاء كان بيته مفتوحاً للغرباء، فلا مانع أنْ يأتي إليه ولو بدعوة صبي.
¤ ومنها: أنّه فَهِمَ من القرائن أنّ هذا الغلام ابن عمّ ذلك النبي الذي جاء لتحقيق حاله، فوجد أنّه من المناسب أنْ يقبل دعوته؛ لأنّه حينئذٍ يكون أقرب للتعرّف على النبي الجديد.
¤ ومنها: أنّ كلام هذا الغلام وتصرفاته أوحت إلى أبي ذرّ أنّه أمام غلامٍ يعادل الرجال في فكره ومنطقه، فشجّعه ذلك على قبول دعوته، والنزول في مضافته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

كلامٌ حول حديث «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»