مسألة التعبُّد بجميع الأديان



يسأل بعض المؤمنين: هل يوجد من علماء الإمامية - أيدهم الله - مَنْ يقول بجواز التعبّد بجميع المذاهب والأديان؟ وقد عزي مؤخرا تسجيل لبعضهم يقول فيه بالجواز. 

فنقول على هذا جواباً:

☆ إذا أخذنا بظهور هذه المقولة وإطلاقها، فالجواب: أنه لا يوجد، ولا يمكن أنْ يوجد. نعم، يمكن أنْ يدّعي ذلك مَنْ ليس له علاقة بالعلم وأهله. وذلك لأنّ التعبّد بالأديان لا يخلو عن احتمالات:

⊙ الأول: أنْ يراد منه أنْ كلّ دين من الأديان يجوز التعبّد به في ظرفه الذي بُعث نبيُّ هذا الدين للتبشير به، فيقال: اليهودية حين دعوة النبيّ موسى عليه السلام إليها يجوز التعبّد بها، والمسيحية حين دعوة النبيّ عيسى عليه السلام إليها يجوز التعبّد بها. وهذا وإنْ كان جائزاً، بل واجباً، إلا أنّه لا يشمل جميع الأديان، بل يختصّ بالأديان الإلهية، ودعوة الأنبياء عليهم السلام. ولا يشمل المذاهب المنحرفة التي لم تنشأ من دعوة نبيّ أو وصيّ.

⊙ الثاني: أنْ يراد منه التعبّد بخصوص الأديان الإلهية حتى بعد وقوع التحريف فيها، ونسخها بالإسلام. ويكون ذلك الجواز ابتدائيّاً، بمعنى أنّ كلّ إنسان ابتداء، وإنْ لم يحصل له قطعٌ بحقانية دين ما، يكون مخيّراً في اختيار ما يريد، وتكون ذمّته بذلك مبرأة. والاعتقاد بجواز ذلك مِمّا يُضحك الثكلى؛ كيف والأديان بعد التحريف تشتمل على المتناقضات، فهناك الاعتقاد بالتثليث، والاعتقاد بالتوحيد، وهكذا... وماذا نفعل بالآيات والروايات التي حصرت الدين الحق بالإسلام؟! وماذا نفعل بدعوة النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله لسائر أتباع الأديان إلى الإسلام، والتشديد على ذلك؟! فإنّه إذا جاز التعبّد ابتداء، فلا معنى للدعوة والتشديد عليها.

⊙ الثالث: أنْ يراد منه حصول العذر للمكلّف إذا توصّل فكره على سبيل البتّ والجزم إلى حقانية دينٍ معيّن، أو أيّ اتّجاه يحمل رؤية كونية خاصّة وإنْ كانت إلحادية. والقول بجواز ذلك قد طرحه العلماء عند حديثهم عن الحجية الذاتية للعلم، وليس أمراً جديداً كما يحلو لصاحب مقولة (إطلاق جواز التعبّد) أنْ يوهم به سامعيه. وعند تعرّض العلماء لذلك بيّنوا بشكلٍ واضحٍ أنّ الاتّجاهات والأفكار والاعتقادات الخاطئة لا يخلو حالها من صورتين:
¤ الأولى: أنْ تكون مخالفة للفطرة السليمة والبديهيات الواضحة، وهذه لا يحصل بها والعلم، ومدّعيه ليس إلا مكابراً، وبالتالي لا تكون ذمّته مبرأة، ولا يصحّ أنْ ينسب للشريعة الإسلامية تجويزه (بمعنى الجواز التكليفي).
¤ الثانية: أنْ لا تكون كذلك، كبعض الاعتقادات النظرية، والتي يقع فيها القيل والقال. والتي يكون لحصول العلم بما هو خلاف الواقع فيها مجال. وحينئذٍ لا يخلو صاحب هذا العلم الخاطئ إمّا أنْ يكون مقصّراً في مقدمات تحصيله، وإمّا أنْ لا يكون. وعلى كلا الفرضين يكون معذوراً في معلومه وما قطع به، إلا أنّه في الفرض الأوّل لا يُعذر في تقصيره.

⊙ ثمّ إنّ جذور هذه النظرية (جواز التعبد بجميع الاتّجاهات والمذاهب) يرجع إلى ما يعرف بالتعددية الدينية  (Religious pluralism)، والتي ظهرت بعد عصر النهضة الأوربية، والتي بلورها ونظّر لها الثيولوجي الإنكليزي (جون هيك)؛ مستنداً الى آراء من سبقه من فلاسفة الغرب. وهو أيضاً ما حاول بعض دعاة التنوير في العالم الإسلامي أنْ يضعوه في قالبٍ مناسبٍ للمفاهيم الدينية، فأبرزوا مصطلح (الصراطات المستقيمة). وخطورة هذه النظرية وتواليها الفاسدة تظهر في بعض يلي:
- الالتزام بعدم كون الإسلام ناسخاً للأديان التي قبله.
- أنّ مبررات هذه التعدّدية لا يجعل النظرية محصورة في دائرة المذاهب الإسلامية والأديان السماوية، بل يعممها على كلّ اتّجاه وإنْ كان أرضياً وإلحادياً.
- تصحيح التعبد بكلّ أنواع الآلهة؛ لوضوح الفرق بين الاعتقاد بتعدد الطرق إلى الله الواحد، والاعتقاد بصحة التعبّد بأيّ إله يخلقه الذهن البشري نتيجة لقناعات وإنْ كانت منحرفة.

⊙ ولقد كان الحريّ بمدّعي جواز التعبد بجميع المذاهب والأديان أنْ لا يُطْلِق الكلام فيها على حدّ الفتوى، من دون أنْ يبيّن لسامعيه سوابق هذه النظرية في الفكر الغربي، والتمييز بين احتمالاتها، وبيان ما يترتّب على ذلك من توالي فاسدة، والتفريق بين الاعتقاد بالجواز وبين تبرئة ذمة من اتّبع ديناً آخر. والكلّ يتساءل عن السبب في طرح مثل هذه الأفكار التخصصية بشكلٍ صادم وفتوائي، من دون ذكر المقدمات الموضوعية والمنهجية اللازمة، والإحالة على (السين، وسوف)، من دون الوفاء بذلك كما هي العادة. ونِعْمَ ما قال بعضهم: إنّ مثل هذه الطريقة من الطرح تفتح المجال أمام التفلّت الديني، ويوجب زعزعة ثقة الشباب بعقيدتهم ومذهبهم. أعاذنا الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

كلامٌ حول حديث «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»