تساؤلات مُلِحّة حول دعوى جواز التعبُّد بكل الأديان



أفتى بعض المتحدِّثين قبل فترةٍ بجواز التعبُّد بسائر الفِرَق الإسلامية، ولمّا أثارت المسألةُ اللغطَ في الساحة قام مؤخرًا بالتحدُّث عبر عدة مقاطع موضحًا وجهة نظره ومستندها والحيثيات التي تُحيط بها، وزاد في أثنائها على ما سبق بتصريحه بجواز التعبُّد بسائر المِلَلِ والنِحَل، حتى غير الإلهية منها. ولا أقل من باب أن الرجل قد رحّب بالملاحظات والاستفسارات، فإني أتقدَّم بهذه التعليقات راجيًا جوابها:

أولاً: بعض النصوص المُستَشهَد بها

بيّن المتحدِّث الأصول التي ابتنت عليها فتواه، وهي: أن المدار على الدليل، وأن الدليل لا بدّ أن يكون قطعيًا، وأنه أعم من أن يكون مطابقًا للواقع أو غير مطابق، وأيَّد أصول فتواه هذه بعدة نصوصٍ شرعية(1)، وهي:
1) ما رواه العياشي عن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: مَن فسَّر القرآنَ برأيه فأصاب، لم يؤجَر، وإن أخطأ كان إثمه عليه(2).
2) ما رواه العياشي أيضًا، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: مَن فسَّر القرآن برأيه، إن أصاب لم يؤجَر، وإن أخطأ، فهو أبعد من السماء(3).
3) ما رواه الصدوق بسنده عن ابن أبي عُمَير، رفعه إلى أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: القضاة أربعة: قاضٍ قضى بالحق وهو لا يعلم أنه حقٌ فهو في النار، وقاضٍ قضى بالباطل وهو لا يعلم أنه باطل فهو في النار، وقاضٍ قضى بالباطل وهو لا يعلم أنه باطل فهو في النار، وقاضٍ قضى بالحق وهو يعلم أنه حق فهو في الجنة(4).
4) ما رواه الترمذي بسنده عن جندب بن عبدالله، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): مَن قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ(5).
5) ما رواه النسائي بسنده عن جندب أيضًا، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): مَن قال في كتاب الله برأيه، فأصاب، فقد أخطأ(6)، ونقل نفس الرواية أيضًا من الإتقان في علوم القرآن للسيوطي.

عدا رواية الخصال، هذه الروايات -ومع قطع النظر عن المدلول الالتزامي المُدَّعى لها من المتحدِّث- تمنع بصريح منطوق عبائرها من الاعتماد على الرأي، وفي قِبال ذلك نرى أن هنالك جماعةً من علماء الفِرَق الأخرى مِمَّن عُرِفوا باعتمادهم على الرأي والقياس والاستحسان، بل سُمّيَ المذهب الحنفي برأسه مذهبَ أهل الرأي، فهل يلتزم المتحدِّث بالدلالة المطابقية الصريحة للرواية، فيستثني أهل هذا المذهب ومَن جرى مجراهم من أهل المذاهب الإسلامية الأخرى، بل وغير الإسلامية فلا يشملها الجواز؟ أم أنّه يستشهد بدلالةٍ التزاميةٍ مُدَّعاة ويترك ما كانت مُترتِّبةً عليه -أي المدلول المطابقي الصريح- أصلاً؟

ثانيًا: المدار على الدليل المعتبر

صرَّح المتحدِّثُ بأنه يجوز التعبُّد بكلّ ملّةٍ أو نحلة شريطة أن يحوز الدليلَ المعتبرَ عليها لا بالرأي ولا المنامات ولا الحدس(7). ولنا هنا أن نتساءل: الدليل المُعتَبَر عِند مَن؟

- هل الدليل المُعتبَر عند نفس هذا المُتَعَبِّد؟ إن كان كذلك، فلعلَّ المنام والرأي والحدس أدلَّةٌ معتبرةٌ عنده، فَلِمَ مَنعه من الاستدلال بها؟ وكيفما كان، فيترتَّب على ذلك عدم جواز التعبُّد بالأديان التي ينحصر الطريق لإثباتها بالمنامات والرأي والحدس.

- أم أنَّه الدليل المعتبر عند المتحدِّث؟ فكيف يُلزِمُ المُتَحدِّثُ غيرَه بأدلةٍ ما وهو لا يرى واقعيَّتها؟ إذ هو يُصرِّح بعبائر واضحة بأنه لا طريق لأحدٍ -غير المعصوم- للواقع، بل كلّ ما يعتقده الناس من حقائق إنما هي حقائق نسبية لا مطلقة، بما في ذلك استحالة اجتماع النقيضَين(8)، هذا متبنّاه، ولا محذور عندَه في عدم بقاء حجرٍ على حجرٍ لا في الفلسفة والكلام ولا في غيرهما، ولا دليل في نظره على لزوم بقاء حجرٍ على حجر(9).

- أم أنه الدليل المعتبَر عند جنس العقلاء؟ أو أضيق من ذلك أي الضرورات العقلية؟ وهل يُلزِمَ غيرَه بأمورٍ هي في الواقع قابلةٌ للأخذ والرد ومجال الاختلاف فيها مفتوحٌ، بما في ذلك ما يرتبط باجتماع النقيضَين(10)؟

ثالثًا: الحكم بكفر الآخر

نرى المتحدِّثَ في هذه المقاطع يُشَنِّعُ على مَن يحكمون بكُفر الآخر(11). الحكم بكفر الآخر هو بتعبيرٍ آخر حكمٌ بخروجه من الدين الحق، والمتحدِّثُ يستشكل في ذلك ويعتبر أن القولَ بأن الحق في طرفٍ ما دون طرفٍ آخر، في فرقةٍ ما دون فرقةٍ أخرى، في دينٍ ما دون دينٍ آخر مصادرةٌ للآخر وأنها هي الداعي للتقتيل وغير ذلك مِمَّا جرى مجراه، وأن ذلك في غير محله؛ إذ الحقيقة نسبيةٌ لا مطلقة(12).
وهنا أسئلة: ماذا لو كان للحاكم بخروج الآخر من دينه -أو فرقته- دليلٌ مُعتَبَرٌ لمذهبه وأحكامه ومنه هذا الحكم؟ هل يُستثنى هذا الحكم من جواز التعبُّد بهذه الملة أو تلك النحلة؟ ويُستثنى كذلك منه اعتقاده بصحة مذهبه وبطلان سواه وكون ذلك حقيقةً مطلقةً وإن قاده الدليل لذلك؟
ثم هل الدعوى بأنه ليس في الواقع -عند غير المعصوم- حقائق مطلقة هي الأخرى حقيقةٌ مطلقة؟ أم هي كسائر الحقائق أيضًا ليست أكثر من حقيقةٍ نسبية؟ فإن كانت نسبيةً، فهل يضير التعامل مع نظيرها كنسبيةٍ أيضًا؟ وإن كانت مطلقةً، فما وجه احتكار الحقيقة ها هنا؟


--------------------------
(1) راجع: مواقف في الصميم: 3، مواقف في الصميم: 4، ومواقف في الصميم: 5.
(2) التفسير (للعياشي): ج1، في مَن فسَّر القرآنَ برأيه، ح2(65)، ص95 [ط1 مؤسسة البعثة].
(3) التفسير (للعياشي): ج1، في مَن فسَّر القرآنَ برأيه، ح4(67)، ص96 [ط1 مؤسسة البعثة].
(4) الخصال: ج1، ب الأربعة، القضاة أربعة، ح108، ص276 [ط9 مؤسسة النشر الإسلامي].
(5) الجامع الكبير (سنن الترمذي): ج5، أبواب تفسير القرآن، ب1 ما جاء في الذي يُفَسِّر القرآن برأيه، ح3183، ص212 [ط1 دار الرسالة العالمية].
(6) السنن الكبرى (للنسائي): ج7، ك47 فضائل القرآن، ب59 من قال في القرآن بغير علم، ح8032، ص286 [ط1 مؤسسة الرسالة].
(7) راجع: مواقف في الصميم: 5.
(8) راجع -على سبيل المثال-: بحوث في طهارة الإنسان: 32.
(9) راجع -على سبيل المثال-: بحوث في طهارة الإنسان: 32.
(10) راجع -على سبيل المثال-: مواقف في الصميم: 1، وبحوث في طهارة الإنسان: 32.
(11) راجع -على سبيل المثال-: مواقف في الصميم: 6.
(12) راجع: مواقف في الصميم: 6.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

كلامٌ حول حديث «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»