مفهوم التبرّي في القرآن الكريم
![]() |
الباحث عبدالزهراء المير طه |
معنى التبري: برأ ، أصل البُرْءِ والبَرَاءِ والتبرّي: التفصّي مما يكره مجاورته ، ولذلك قيل: بَرَأْتُ من المرض وبَرِئْتُ من فلان وتَبَرَّأْتُ وأَبْرَأْتُهُ من كذا، وبَرَّأْتُهُ، ورجل بَرِيءٌ، وقوم بُرَآء وبَرِيئُون. وأنّ مادّة برأ -و- برى- متقارب أحدهما من الآخر، والأصل الجامع الواحد فيها : هو التباعد من النقص والعيب ، ( إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) أي نزيه ومتباعد من هذه العقيدة .
ويعتمد التولي والتبري أولاً على المفاهيم الفطرية والعقلية فالتبري من الشرّ والشرير أمرٌ فطريٌ كالتبرّي من اللص أو الإرهابي، وفي الدول التولي للمواطن والتبري عن غير مواطنيها والتبري والتولي في الأحزاب والاتجاهات السياسية فالعلماني يتولى العلماني ويتبرأ من الشيوعي والمدني يتولى المدني ويتبرأ من العلماني أو التولي والتبري في العشائر فالعشيرة تتولى أبناءها وتتبرأ عن غيرهم ونحو ذلك، كما أن العقل يحكم بالتبري حيث يتبرأ من كل ما يضر الذات كالتبري من الذي يريد الفساد في الأرض.
ويعتمد مفهوم التبري على مفاهيم عقلائية فالعقلاء عند كل الأمم والملل يجمعون على ضرورة طرد أو إبعاد المفسدين والفاسدين لئلا يجلبوا الضرر أو الخراب في الأمة
ويستند مفهوم التبري على مفهوم ديني شرعي والذي تدل عليه مئات الآيات الكريمة والروايات الشريفة -والتي سنورد بعضا منها– فمفهوم التبري من المستقلات العقلية، ولا خلاف في مفهومه أما النقاش ففي المصاديق وعند أي اتجاه فلا يقال لمَ تتبرأ، بل ممن تتبرأ.
والتبري في مفهوم الفقه الإمامي هو حالة نفسانية مؤداها الرفض لمبادئ وعقائد أعداء النبي –ص- وأهل بيته –ع- من الكفار والمنافقين والخوارج والنواصب والمعادين الجدد الذين لم ولن تنفع معهم الهداية ولا وسائل المعالجة الدينية، وقد تعلن البراءة أو تضمرها بحسب المناسب والمقتضي .
ومن الآيات الدالة على مفهوم التبري:
1- بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ .لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ . وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ . وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ . وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ( سورة الكافرون )
2- سورة البراءة بكاملها، ومنه قال تعالى (وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأْكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) ( التوبة : 3)
3- سورة المنافقين، منه قوله تعالى: (وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) ( المنافقين :4)
4- قوله تعالى: (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الأُْخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) وهذه الآية أثبتت وجوب مقاتلة أهل البغي وهو أشد من التبري المجرد، بل التبري بشدة .
5- قوله تعالى: ( وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لأَِبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لأََوَّاهٌ حَلِيمٌ ) (التوبة: 114) ولم يكن آزر أباه الحقيقي بل كان عمه، وفي اللغة العربية يطلق على المربي لفظة الأب، ويظهر من الآية الكريمة أن آزر وعد إبراهيم (ع) أن يؤمن، ولذلك استغفر له إبراهيم (ع) استغفاراً فعلياً أو تعليقياً، ولكنه عندما تبيّن له أنه عدو لله، تبرأ منه؛ لأن الدين لا يقيم قاعدته على أساس العلاقات العائلية، بل يقيمها على أساس العلاقات العقائدية، فالعقيدة هي الملاك وليس الروابط.
6- براءة النبي إبراهيم (ع) من قومه المشركين: ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( الممتحنة : 4)
7- براءة الرسول (ص) من أبي لهب، قوله تعالى ( تبت يدا أبي لهب وتب ) ( المسد : ١ )
وقد يقال لماذا التبري من أعداء النبي – ص – وأهل بيته الطاهرين –ع – وأعداؤهم قد ماتوا ولم يعودوا بين ظهرانينا ؟
فيجاب عنه :
1) إن التبري يعني صنع الحاجز النفسي والاجتماعي مع من تتبرّأ منه، فمثلا من الناحية الفقهية يحرم على الإنسان أن يجلس على مائدة يُشرب فيها الخمر، إننا الآن نتنفر من الخمرة ويكون تصوّر شربها مقزّزاً لنا، لكن إذا جلس الإنسان على مائدة يُشرب فيها الخمر فإن هذا الحاجز النفسي يقلّ تدريجياً.
وهؤلاء الأفراد الذين نتبرّأ منهم لا يمثلون أفراداً فقط بل يمثّلون مناهج أيضاً، فالحجاج الثقفي يمثّل منهجاً وهذا المنهج قابل للتكرار في كل مكان وزمان، إذن ينبغي وضع حاجز نفسي واجتماعي تجاه النماذج السيئة المتبرئ منها لئلا تتكرر.
2) إن الموقف من النماذج المنحرفة في تأريخ الاسلام دائر بين أمرين، فإما أن ندين هذه النماذج المنحرفة أو ندين الإسلام، فنحن مضطرون لأحد هذين الأمرين، فنقول إن هؤلاء لا يمثّلون الدين وإننا نعلن براءتنا منهم، أفضل من أن نسكت عن هؤلاء وجرائمهم، وهذا معناه إدانة الإسلام. واليوم الإسلام الحقيقي يتبرأ من الدواعش وأمثالهم لئلا يدان الإسلام بسوء افعالهم وجرائمهم.
تعليقات
إرسال تعليق