رواية الكوفيين عن الصادق ع
الشيخ أحمد سلمان الأحمدي |
يشكل علينا المخالفون بأنّ أغلب الرواة عن الإمام الصادق (ع) هم من أهل الكوفة، وهو مدني المولد والمنشأ والوفاة، فما حال هذه الدعوى؟
كثيرًا ما يردّد المخالفون هذه الشبهة توهّما منهم أنّها مسقطة لروايات الإمام الصادق (عليه السلام) في كتب الشيعة أعلى الله برهانهم، ويرد على ذلك:
أولاً: لم يشترط أحد من علماء الحديث سواء من الشيعة أو من السنة أنّه لا بدّ من اشتراك الراوي والمروي عنه في المدينة بل غاية ما اشترطوه هو (إمكانية اللقاء بين الراوي والمروي عنه) وهو رأي مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح، أو (ثبوت اللقاء ولو مرة واحدة) وهو رأي محمد بن اسماعيل البخاري وجملة من المحدّثين، ولذلك نجد في كتب الحديث رواية الكوفيين عن المدنيين، والمكيين عن الشاميين، والبصريين عن اليمنيين، بل قلّما تجد راوي اقتصر في الرواية على أهل بلدته.
ثانيًا: إنّ أهل الكوفة كانوا يترّددون باستمرار على الحجاز للحج والعمرة وزيارة قبر المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وكانوا يقضون الأيام الكثيرة في مكة والمدينة؛ نظرًا لصعوبة الوصول لها، وتكون هذه الرحلة فرصة للقاء الإمام الصادق (عليه السلام) والاستفادة من علومه، ومن يقرأ كتب التاريخ والسير يجد أنّ الرواة كانوا يذكرون تفاصيل اللقاء (رأيته بعرفة، سألته بمنى، قابلته عند الطواف، زرته في المدينة... ) ممّا يؤكد ما ذكرناه، بل نصّ المؤرخون أنّ الصادق (عليه السلام) كان من أهداف ذهابه للحج نشر علوم آبائه الطاهرين، وقد نقل الذهبي في السير(1) ما يشير لذلك قال: وعن عمرو بن أبي المقدام، قال: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنّه من سلالة النبيين، قد رأيته واقفًا عند الجمرة يقول: سلوني، سلوني. وعن صالح بن أبي الأسود، سمعت جعفر بن محمد يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، فإنه لا يحدثكم أحد بعدي بمثل حديثي.
ثالثًا: لا يخفى على من تتبّع كتب التاريخ أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قد تردّد أكثر من مرّة على الكوفة، بل اشتهر أنّه أقام فيها سنتين ويشهد على ذلك:
- ما نقله ابن شهر آشوب في المناقب(2): عن محمد بن ميمون الهلالي، قال: مضيت إلى الحيرة إلى جعفر بن محمد (عليه السلام) ثلاثة أيام فما كان لي فيه حيلة لكثرة الناس، فحيث كان اليوم الرابع رآني، فأدناني وتفرق الناس عنه ومضى يريد قبر أمير المؤمنين...
- وما نقله ابن عدي مسندا في الكامل(3): حسن بن زياد يقول: سمعت أبا حنيفة -وسئل: من أفقه من رأيت؟- فقال: ما رأيت أحدا أفقه من جعفر بن محمد لما أقدمه المنصور الحيرة بعث إليّ فقال يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيء له من مسائلك تلك الصعاب.
ومن ذهب إلى العراق وتحديدا إلى الكوفة يطمئن من صحة هذه النقول لوجود الآثار التاريخية المتعلقة بسيدنا ومولانا الصادق (عليه السلام) كبيته ومحرابه وبعض المواضع التي اشتهر أنه صلّى فيها.
رابعًا: لو صحّ أنّ أكثرية الرواة عن الصادق (عليه السلام) من أهل الكوفة، لكان ذلك مطعنًا في أهل المدينة وليس شكّا في صحة حديث أهل الكوفة عنه؛ إذ يلزم من هذا أنّ أهل المدينة لم يقيموا للصادق (عليه السلام) وزنًا رغم أنّه كان بين ظهرانيهم، ولذلك نقل عن مالك بن أنس أنّه قال: لا يروي عن جعفر بن محمد حتى يضمه إلى آخر من أولئك الرفعاء ثم يجعله بعده(4).
وورد عن سفيان: كنا إذا رأينا طالبًا للحديث يغشى ثلاثة، ضحكنا منه، ربيعة، ومحمد بن أبي بكر بن حزم، وجعفر بن محمد؛ لأنهم كانوا لا يتقنون الحديث(5).
ودلّت الروايات المذكورة في كتب العامة على شدّة عناية الكوفيين بحديث جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) وأهميته عندهم: فقد روى يحي بن معين: خرج حفص بن غياث إلى عبادان، وهو موضع رباط، فاجتمع إليه البصريون، فقالوا: لا تحدثنا عن ثلاثة: أشعث بن عبد الملك، وعمرو ابن عبيد، وجعفر بن محمد، فقال: أما أشعث فهو لكم، وأنا أتركه لكم، وأما عمرو بن عبيد، فأنتم أعلم به، وأما جعفر بن محمد، فلو كنت بالكوفة لأخذتكم النعال المطرقة(6). أي لو قلتم مثل هذا الكلام في الكوفة حيث يعرف الناس قيمة حديث جعفر بن محمد الصادق لضربتم بالنعال المطرقة.
فمن هنا نعلم أنّ قسما من أئمة أهل السنة والجماعة قد أعرضوا عن روايات الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) وتبعهم على ذلك عامة المحدّثون لا سيما أهل المدينة الذين كانوا تبعًا لمالك بن أنس.
خامسًا: إنّ من يقرأ التاريخ يجد أنّ هناك حظرا ضرب على إمامنا الصادق (عليه السلام) بحيث يحدّ من انتشار رواياته بين عامة الناس وذلك بأمور:
- الطعن في رواية الإمام الصادق (عليه السلام) سواء من جهة الوثاقة أو جهة ضبطه (عليه السلام) كما نقل ذلك عن أحمد بن حنبل في مسائله(7) قال: ضعيف الحديث مضطرب، وعن يحيى بن سعيد القطان قوله: في نفسي منه شيء ومجالد أحب إلي منه (8).
- الطعن في ثقات الرواة عن الإمام الصادق (عليه السلام) والتضييق عليهم وإن كانوا من أهل البيت ومن ولده، قال ابن حبان في الثقات(9): يحتج بروايته ما كان من غير رواية أولاده عنه؛ لأنّ في حديث ولده عنه مناكير كثيرة وإنما مرض القول فيه من مرض من أئمتنا لما رأوا في حديثه من رواية أولاده وقد اعتبرت حديثه من الثقات عنه مثل بن جريج والثوري ومالك وشعبة وابن عيينة ووهب بن خالد ودونهم فرأيت أحاديث مستقيمة ليس فيها شيء يخالف حديث الاثبات ورأيت في رواية ولده عنه أشياء ليس من حديثه ولا من حديث أبيه ولا من حديث جده ومن المحال أن يلزق به ما جنت يدا غيره.
- فتح المجال للكذابين لاختلاق الأحاديث ونسبتها إليه (عليه السلام)؛ لينفر الناس من حديثه، فقد ذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل(10): حدثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: كتب الفضل بن الربيع إلى أبي -حفص بن غياث من مشاهير الرواة عن الصادق (عليه السلام)-، فقال: لا تحدث عن جعفر بن محمد، فقلت لأبي: هذا أبو البختري ببغداد يحدث عن جعفر بن محمد بالأعاجيب ولا ينهى؟ فقال: يا بني، أمّا من يكذب على جعفر بن محمد، فلا يبالون به وأما من يصدق على جعفر فلا يعجبهم.
ومن هنا نعلم أنّ محاولة الطعن في رواية الكوفيين عن الصادق (عليه السلام) هي محاولة جديدة لإسقاط مروياته وابعاده عن ساحة العلم والعلماء.
* ملاحظة:
كلّ الأجوبة المتقدّمة مبنية على التسليم بالإشكال وهو أنّ أغلب الرواة عن الإمام الصادق (عليه السلام) كانوا من الكوفيين، والحال أنّ هذا الأمر غير مسلّم وعلى صاحب الإشكال أن يدعّم قوله بإحصائية دقيقة تثبت مدّعاه قبل الخوض في الجواب، علمًا أنّ صاحب كتاب (تنبيه الحاذق في سيرة ومرويات جعفر الصادق) -من المخالفين المعاصرين- قد نصّ على أنّ أغلب الرواة عنه كانوا من أهل المدينة كما في صفحة 32 من الكتاب المذكور.
--------------------
(1) سير أعلام النبلاء 6: 257.
(2) مناقب آل أبي طالب 3: 363.
(3) الكامل في الضعفاء 2: 133.
(4) الكامل في الضعفاء 2: 356.
(5) سير أعلام النبلاء 6: 91.
(6) سير أعلام النبلاء 6: 256.
(7) مسائل الإمام أحمد 3: 67.
(8) الكامل في الضعفاء 2: 256.
(9) الثقات: 6: 132.
(10) الجرح والتعديل 9: 25.
تعليقات
إرسال تعليق