دعوى وحدة السياق في آية التطهير
![]() |
الشيخ حسين المياحي |
قال تعالى في سورة الأحزاب: ﴿وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً﴾(1)، كثيراً ما يحتج المخالفون بوحدة السياق المزعومة في آية التطهير، على أن المراد بأهل البيت في قوله تعالى: ﴿إنما يريدُ الله ليذهبَ الرجسَ عنكم أهل البيت ويطهركم تطهيراً﴾ هو نساء النبي (ص) خاصة، وبينما كنت أقلّب صفحات الفضائيات قريبًا، رأيت بعض إخوتنا من المؤمنين قد دخل مع هؤلاء في أخذ ورد على إحدى فضائياتهم، وكنت أتمنى أن يكون مسلحًا بالأدلة وباحثًا بشكل أعمق، لذا رأيت أن أستكشف حقيقة الأمر في هذا المقال المختصر، فأقول:
لا بد أن نفهم أولاً دعوى المخالف، فالكثير من الدعوات تستبطن بطلانها في نفسها، فلا نحتاج بعد ذلك لإيراد الأدلة، وإليكم أعزائي بياناً بدعوى المخالف، وأتمنى أن تفتحوا المصحف الشريف لتتأملوا سورة الأحزاب، ثم سورة المائدة فيما بعد: ما هي الدعوى؟ وما هو الدليل؟
الدعوى: أن الآية في نساء النبي (صلَّى الله عليه وآله) خاصة.
الدليل المفترض: وحدة السياق، بمعنى أن الآيات التي قبلها كلها في نساء النبي (صلَّى الله عليه وآله)؛ إذ قال تعالى: ﴿ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء... ﴾، والآيات التي بعدها استأنفت القول: ﴿ واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ﴾ بل إن الآية ذاتها بدأت بالقول: ﴿ وقرنَ في بيوتكنّ..﴾.
ولكي نستكشف الحقيقة لا بد أن نتناول البحث من المحاور التالية:
- المحور الأول: لنتحقق أولاً وقبل كل شيء من دعوى (وحدة السياق)، فهل أن الآيات في السورة المذكورة في سياق واحد كما هو المدعى؟
- المحور الثاني: هل التزم القرآن الكريم وحدة السياق؟
- المحور الثالث: اصطلاح (أهل البيت) هل نُخضعه للاجتهاد أم نأخذ بقول صاحب الشريعة وهو النبي (صلَّى الله عليه وآله)؟
لنبدأ أولاً بالمحور الأول، فنقول:
- أولاً: بالرجوع إلى ما قبل هذه الآية نجد أن سورة الأحزاب وردت في سياقات مختلفة ولم ينحصر سياقها في نساء النبي (صلَّى الله عليه وآله) وإليك الشاهد: قال تعالى في الآيتين السادسة والعشرين والسابعة والعشرين من الأحزاب: ﴿ وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً . وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم... ﴾ ثم انتقل في الآية التالية لموضوع آخر فقال: ﴿ يا أيها النبي قل لأزواجك ... ﴾ فتغير السياق كما هو واضح.
- ثانيًا: إن دعوى وحدة السياق تقتضي أن يكون اللفظ في نساء النبي (صلَّى الله عليه وآله) خاصة كما هو المُدَّعى، بينما نجد اختلاف الضمير في قوله تعالى: ﴿ عنكم ... يطهركم ﴾ فلو كانت في السياق ذاته لقيل: (عنكنّ... يطهركنّ).
وهنا نقف وقفةً مهمةً جدًا لم يلتفت إليها الكثير من إخوتنا الذي دخلوا الحوار مع هؤلاء، وهي: إنهم أجابوا عن تغير الضمير بقولهم: إن ضمير المذكر في اللغة العربية كثيرًا ما يستخدم في التغليب، وقد استخدم القرآن ذلك، ومنه قوله تعالى: ﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ﴾(2)، فجمع المؤنث إذا وجد فيه المذكر استُخدم فيه ضمير المذكر تغليبًا، فالآية الشريفة ناظرة إلى وجود النبي (صلَّى الله عليه وآله) مع أزواجه، فصحّ أن يؤتى بضمير المذكر.
نقول: إن ما قالوه من التغليب في اللغة صحيح لا غبار عليه، إلا أنه سوف يُخرج المقطع المذكور من الآية عن السياق الذي احتجوا به، فالدعوى أن الآية في (نساء النبي (صلَّى الله عليه وآله) خاصة)، أما وجود الضمير المذكر فيجعلها -حسب دعواكم- في (النبي ونسائه) إذن خرج الكلام عن السياق، ولبيان ذلك أكثر نقول: إن دعوى وحدة السياق والحال هذه تجعل النبي (صلَّى الله عليه وآله) أحد أفراد (نساء النبي) وبمعنى أوضح: يكون النبي (صلَّى الله عليه وآله) نفسه واحدة من أزواج النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وهو باطلٌ كما ترى.
المحور الثاني: هل التزم القرآن الكريم وحدة السياق؟
الجواب: أن القرآن الكريم لم يلتزم في سوره وآياته وحدة السياق، فبينا تجده يتحدث عن أمر إذ به ينتقل إلى غيره، ثم يعود إليه، وهذا كثير، ومنه ما ذكرناه سابقًا في سورة الأحزاب نفسها، إذ انتقل من الآية السابعة والعشرين إلى ما بعده فتغير السياق. قد يقول قائل: إن الاختلاف في السياق الذي ذكرتموه في سورة الأحزاب كان بين الآيات، وهنا في آية واحدة؟ فالمقطع المذكور إنما هو جزء من آية، فكيف يختلف السياق في الآية الواحدة؟
الجواب: لقد ورد في القرآن الكريم شواهد عديدة على اختلاف السياق في الآية الواحدة ومنه ما جاء في الآية الثالثة من سورة المائدة، قال تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ (..) الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ دينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ ديناً (..) فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لإثمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحيمٌ ﴾(3)، فبينا تجد الآية تتحدث عن أحكام شرعية فقهية انتقلت فجأةً إلى القول: ﴿ اليوم يئس الذين كفروا ﴾ إلى قوله: ﴿ ورضيت لكم الإسلام دينًا﴾، ثم رجعت للقول: ﴿ فمن اضطر في مخمصة ﴾، فلم يلتزم السياق في الآية الواحدة، وهكذا في آيات عديدة أخرى.
المحور الثالث: اصطلاح (أهل البيت) هل نخضعه للاجتهاد أم نأخذ بقول صاحب الشريعة وهو النبي (صلَّى الله عليه وآله)؟
والإجابة عن هذا السؤال من بديهيات الدين، فالاصطلاحات الشرعية لا بد أن نرجع فيها لصاحب الشريعة أولاً، لا إلى اجتهاداتنا ومقتضيات اللغة، وإلا فإن الصلاة لا تعني في اللغة سوى الدعاء، وكذلك الزكاة والحج والنشوز وغيرها مما ورد في القرآن الكريم وأصبح من الاصطلاحات الخاصة التي لا تخضع بالكامل لمقاييس اللغة والاجتهادات الشخصية، إنما يكون المرجع فيها هو صاحب الشريعة.
وقد بين النبي (صلَّى الله عليه وآله) أن هذا الاصطلاح خاص بمجموعة من الأفراد لا يشمل غيرهم، وفي هذا الباب تُجمع الروايات على أنه في أهل الكساء وأنه (صلَّى الله عليه وآله) لم يسمح حتى لأم سلمة، على ما هي عليه من جلالة القدر، أن تدخل معهم في الكساء، والحديث في هذا يطول، فكيف يسعنا أن نترك تفسير النبي (صلَّى الله عليه وآله) للآية وتحديده أهل البيت (عليهم السلام) بشكل واضح وصريح ونلجأ إلى اللغة أو الاجتهاد الشخصي أو السياق أو ما إلى ذلك؟
ولا بد أن نشير هنا إلى أن دعوى (السياق) وأن الآية في نسائه (صلَّى الله عليه وآله) خاصة هي مِمَّا ابتدعه الخوارج، وكان رأس هذه الدعوى هو عكرمة الخارجي، المعروف بكذبه وعدائه الشديد لأمير المؤمنين (عليه السلام) ولم يستدل عليها برواية واحدة، فيما وردت أكثر من أربعين رواية عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) في أنها في أصحاب الكساء، وهو ما أكدته كتب الصحاح والمجامع الحديثية الأخرى، لكن البحث اقتضى أن نحاور الخصم بالقرآن الكريم فقط.
--------------------------
(1) سورة الأحزاب: 33.
(2) سورة آل عمران: 195.
(3) سورة المائدة: 3.
تعليقات
إرسال تعليق