الاحتجاج بحيرة الشيعة على عدم اصطفاء أهل البيت
![]() |
الشيخ أمجد عوّاد / النجف الأشرف |
قد يقال: إنّ الحيرة الحادثة في الوسط الإمامي غداة وفاة الإمام الصادق (ع) والشك في الإمام من بعده مؤشر واضح على عدم معهودية الإمامة بمفهومها المعروف اليوم -من اصطفاء جماعة معينة من آل بيت رسول الله ﷺ- في الوسط الثقافي الإمامي؟ ومن ثم فقد يعلل بذلك عدم تعريف الإمام اللاحق حتى للخلص من الأصحاب، ومن ذلك ما ورد في الصحيح عن محمد بن مسلم(1): قلت لأبي عبد الله (ع): أصلحك الله بلغنا شكواك وأشفقنا، فلو أعلمتنا أو علمتنا من؟
قال: إن علياً (ع) كان عالما والعلم يتوارث، فلا يهلك عالم إلا بقي من بعده من يعلم مثل علمه أو ما شاء الله، قلت: أفيسع الناس إذا مات العالم ألا يعرفوا الذي بعده؟
فقال: أما أهل هذه البلدة فلا [يعني المدينة]، وأما غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم، إن الله يقول: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"
قال: قلت: أرأيت من مات في ذلك؟ فقال: هو بمنزلة من خرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله، قال: قلت: فإذا قدموا بأي شئ يعرفون صاحبهم؟ قال: يُعطى السكينة والوقار والهيبة.
والجواب:
[1] إنّ الحيرة التي حصلت في الوسط الإماميّ بعض الشيء بعد وفاة الصادق (ع) كانت حيرة في مصداق الإمام (المصطفى من عند الله سبحانه) من أهل البيت، وليست في أصل هذه الفكرة؛ فقد كانت هذه الفكرة قد ثُبّتت في أذهان فريق واسع من الشيعة منذ أن ذكر الإمام علي (ع) في خطبه في الكوفة تميّز أهل البيت (ع) عن سائر الأمّة، و”أنّه كلّما غاب منهم نجم طلع نجم آخر“، كما ورد في ما يزيد عن عشرة مواضع من نهج البلاغة -وهو تميّز في العلم والمعنويّة والأولويّة بالأمر، كما هو واضح من كلماته في تلك المواضع-، وكان الباقر والصادق قد أكّدا هذا المنهج في أذهان جمهور الشيعة الذين كانوا يفدون عليهم للتعلّم إلى المدينة؛ حتّى دأبت شيعتهم على أن يبحثوا عن اللاحق بعد السابق من منطلق لزوم الإيمان بالإمام.
[2] وصحيحة محمد بن مسلم المذكورة بنفسها تمثّل هذا المعنى؛ فقد أشفق محمد بن مسلم -وهو من الفقهاء من أصحاب الباقر والصادق-عندما سمع باعتلال حال الإمام الصادق من أن يجهل الوليّ من بعده (ع)، فأكّد له الإمام أنّ هناك وارثاً لأمير المؤمنين (ع) في العلم من أهل هذا البيت لا محالة، وذكر أمير المؤمنين لأنّه أوّل المصطفين من آل البيت؛ ففي كلّ جيل من أهل البيت خلف له، وقد سأل الراوي: «أنّه هل يسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده؟»، ويبدو أنّه كان يعلم أنّه لا يسعهم ذلك ومن ثمّ اهتمّ بلقاء الإمام وسؤاله عمّن يكون بعده، ولكنّه أراد من هذا السؤال أن يجيبه الإمام بتعيين من يخلفه.. فأكّد الإمام (ع) في الجواب على أنّ أهل المدينة لقربهم من الإمام اللّاحق لابدّ أن يعلموا، وأمّا أهل سائر البلدان فبقدر مسيرهم..
ومن المعلوم من سياق الحديث: أنّ وجوب تحصيل العلم بالعالم (الوارث لعلم أمير المؤمنين) إنّما هو لكونه مصطفى من عند الله سبحانه، وفق الحديث النبويّ المشهور بين الفريقين: ”من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة“، وليس ذلك لأجل الفتوى في المسائل الفقهيّة محضاً؛ وإلاّ لكان وجوب المعرفة منوطاً بالحاجة إلى السؤال؛ فلا يجب إلاّ على من احتاج إلى مسألة فقهيّة، وكان محمد بن مسلم قد تعلّم آلاف المسائل عنده وعند أبيه، وكان مستقرّاً بالكوفة، يعلّم الجيل الذي بعده بما تعلّمه من العلم ويفتي لهم في المسائل الفقهيّة.. على أنّه ليس هناك من يلتزم بوجوب وجود وارث لعلم النبيّ ﷺ والأئمّة من نسلهم -بغضّ النظر عن وجود من اصطفاه الله من الأمّة فيهم-.
[3] وعليه: فالوجوب المفهوم إنّما هو وجوب العلم بالإمام؛ لأنّه من معالم الدين التي يجب على كلّ مسلم أن يبحث عنها ويتعلّمها ولا يجوز لأحد أن يجهلها، وليس لأجل مسألة فرعيّة.. وينبّه على ذلك: تطبيق قوله عزّ من قائل: [وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] على من مات قبل أن يعلم الإمام؛ فإنّه إنّما نزل في حقّ المستضعفين من المسلمين في بلاد الكفر الّذين يمنعهم الكفّار من تعلّم معالم دينهم.
إنّ هذا الحديث يؤكّد وجوب معرفة الإمام السابق بعد اللاحق كإمام، وهو بذلك ينطلق عن مفروغيّة وجود إمام من أهل البيت (ع) يجب معرفته ولا يجوز شرعاً الاخلال به، كما في عشرات الأحاديث الصحيحة الأخرى المرويّة عن أئمّة هل البيت (ع)، فالشيعة الذين كانوا يرجعون للإمام الصادق والباقر مستيقنين من مبدأ وجود الإمام المصطفى من أهل البيت (ع).
[4] ولكن كان ما يعتريه الابهام أحياناً هو معرفة مصداقه بالتحديد؛ فقد كانت ظروف الأئمّة (ع) حرجة من جهة أنّ الدولة كانت رقيبة على هذه السلسلة من الطالبيّين -كما يمثّله تعامل السلطة معهم بالخصوص منذ الصادق فالكاظم فالرضا فالجواد فالهاديّ فالعسكريّ (ع)؛ حيث استدعوهم من المدينة إلى محلّ الخلافة وأبقوا بعضهم تحت الرقابة، وسجنوا بعضاً آخر-؛ فكان الأئمّة (ع) حذرين في تسمية الإمام اللّاحق بعينه خشية أن ينتقل ذلك إلى السلطة من خلال عيونها، فيلحق الأذى بهم.
علماً أنّهم (ع) واثقون من وضوح الحال بعد مضيّ فترة على وفاة الإمام السابق، وخفّة رقابة السلطة بشكل تدريجيّ؛ من جهة المفروغيّة عن وجود إمام في كلّ جيل، وكونه في الابن بعد الاب بعد الحسن والحسين (ع) كما ورد في الروايات المعتبرة العديدة.. فكان المؤهّل للإمامة من أولاد الإمام السابق في حال تعدّدهم وتعدّد المدّعي للإمامة منهم يتبيّن بالنظر إلى وضوح الفرق عموماً بين شخصيّة المدّعيّ لوصاية أبيه إليه بالإمامة كذباً وشخصيّة المدّعيّ لها صدقاً؛ لاختلاف الطرفين عادة في المزايا العلميّة والمعنويّة..
[وكان الأئمّة (ع) ينوّعون في أساليب تفهم الإمام اللاحق لأصحابهم: فيذكرونه لبعضهم بالتصريح لاسيّما إذا اقتربت آجالهم، وقد يشيرون إليه لبعض آخر إشارة مفهمة للشيعة بحسب الظروف التي كانوا فيها، ويحيلون بعضاً ثالثاً على العلم -من الفقه الأكبر والأصغر والعلم بكتاب الله سبحانه وسنّة رسوله-، ويوصون بعضاً رابعاً بكون الإمام اللّاحق حائزاً لمواريث الإمامة -مثل كتاب الفرائض لأمير المؤمنين (ع)-، ويصفون لبعض خامس شخصيّة الإمام اللاحق من حيث السكينة والوقار].
[5] ونحن لا نعلم أنّ محمد بن مسلم متى سأل الصادق (ع) هذا السؤال، فربما لم يجد الصادق فعلاً الظرف مواتياً للتصريح به خشية اطّلاع السلطة عليه.. وقد كان الظرف شديداً في آخر عهد الصادق (ع)؛ حيث تزداد هواجس الدولة منه، بعد العلم بنفوذه واستدعي عدّة مرّات إلى عاصمة الخلافة.. وقد جاء في بعض الأخبار أنّ المنصور بعد وفاته أرسل إلى والي المدينة لإعلامه بوصيّ الصادق (ع)، وكان الصادق قد توقّى بأن أوصى إلى خمس؛ الخليفة والوالي وزوجته وابنيه عبد الله وموسى؛ وبذلك أخفى الأمر على الخليفة.
ويبدو أنّ الإمام رأى أنّه يكفي في دلالة محمد بن مسلم على الإمام بتعريفه بشخصيّة الإمام اللاحق من بين مدّعيه باتّصافه بما هو صفة ضروريّة في المصطفين من السكينة والوقار، وقد اتّضح لاحقاً أنّ مصداقه الإمام موسى من بين أولاده (ع)؛ حتّى عمّ سائر الشيعة وارتفع الابهام الذي طرأ ابتداءً كما كان عليه الحال في كلّ مرّة.
--------------------------------------------------
(1) الكافيّ: ج1: ص379-380.
--------------------------------------------------
(1) الكافيّ: ج1: ص379-380.
تعليقات
إرسال تعليق