انغلاقية المنفتح!

الشيخ حسين الحربي


عبر تاريخ البشرية، المثالية جزء أصيل منها فتراها تدّعي أمراً هي عنه بعيدة كل البعد. والحديث عن المثالية حديث عن مصطلح "مُنتهك" والانتهاك للمصطلح شيء اخترعه عقلي -المُشوَّش- وأعني به كل مفهومٍ نطرقه في حديثنا دون أن نلتفت الى معناه وحقيقته.

ولا يغرّنّك شيطان السذاجة ليوحي لك بأن هذا المأخذ من توافه الأمور ومما لا يجدر الالتفات إليه لأنه محض "ترفٍ فكريّ"! فإذا فعل، فالعنه أولاً؛ فإنه سبب كل حماقة نراها اليوم وسبب كل تفاهة تتصدّر المشهد الثقافي. وتذكر قول أفلاطون في جمهوريته
" ثلثي نزاعات البشرية ليست إلا نزاعات لفظية "، والنزاع اللفظي قاتل يا أيها الكريم، فهو استهلاك لكل القوى العقلية في نزاع مع أحدهم حول الأداة التي نكتب بها .. أنسمّيها قلم أم كاتِبة؟! مع أننا تتفق معه على أننا نستخدمه للكتابة!

عوداً على موضوع المثالية .. المأساة الحقيقة في داخل هذا المفهوم هو تعلّقه بالحقيقة، وما أعنيه من ذلك هو أن كل من يدّعي المثالية بالضرورة ستراه مغتالاً للمفاهيم العالية العظيمة. فكثير ممن يزعم "نشر الفضيلة" هو يبحث عن الشهرة، ومن يكسر الحواجز بحجّة النقد و أهميته يرفض أن يُنتقد، ومن يهاجم الناس ويصرخ بـ لا للصنمية هو يُصنّم ذاته!.

يا سيدي الكريم، لاتحتاج إلى سَبر أغوار الكتب ولا المجلدات، ولاتحتاج أن تحجز كرسياً في إحدى المكتبات الأكاديمية لتجري بحثاً، ولا تحتاج أيضاً أن تنبّش في بطون المخطوطات لتكتشف كم من رجل يبدأ بالنقد بحجة الصنمية لا لكراهة مفهوم الصنم عنده، بل لطمعه في هذا المنصب أو ما يساويه. لذلك تراهم يوسّعون المفاهيم ليعتبروا كل احترام وإجلال "صنمية".

والنماذج كثيرة جداً، ومؤخراً أصبحت واضحة المعالم  تتراكب مع بعضها البعض لتشكل لنا لوحة أدعوها بـ "انغلاقية المنفتح"!
مؤخراً دارت رحى الأيام وكشفت لنا وجوهاً ظننّاها وجوه خيرٍ في يوم من الأيام، لا لسذاجتنا بل لطيب نوايانا وصدقنا. فلما سقطوا لم يرضوا بأن يسقطوا وحدهم، وإنما أرادوا أن يعتلوا السلّم عن طريق جديد غير طريق الإنجاز، فهم يختارون الهدم بعنوان "النقد" عوضاً عن البناء! كمن يبني برجاً بشكل عرضي مما يجبره على هدم كل بناء حوله ولو اختار أن يبني بشكل طبيعي لما ضرّه كل بناء حوله والناس ستلتفت الى بنائه كلما اعتلى دون أن يهدم بناء من حوله، وهذا الطريق -أعني طريق الهدم- طريقٌ سهل المؤونة قليلُ التكلفة لايحتاج سوى لسانٍ فصيح ودهماء الناس، ولن ترى وقوداً فعّالا لكل ظاهرة كهذه العامّة والدهماء، فهم يصنعون الأصنام بدون وعي ولنقتبس لفظة د. عبد الجبار الرفاعي (الظمأ الأنطولوجي) وبعد تحويرها نقول ( الظمأ الاتباعي). فحاجة الاتِّباع مغروسة في ضمائر الناس مهما علا كعبهم وتكابرت نفوسهم والفرق بينهم في أحقية المُتَّبَع لا أصل الاتّباع، وكل من يزعم تحرره من هذا فكذّبه وانقل له تحياتي.

ومن اللطيف أن نلتفت إلى مَن يزعم تخلّف الفكر الديني بسبب تأسيسه لثقافة الاتّباع، بينما هو غارق في اتِّباع أفكار التيارات الحداثوية التي نشأت في القرن الثامن عشر الميلادي ومايدور مداره فتراهم مُحتجَزين بين أفكار جون لوك وعمانوئيل كانط. فهم يعيرون التيار الديني بأمر هم ليسوا أقل انغماساً فيه من خصومهم.

وخاتمة القول -وقد جعلتها خاتمة حتى لا أقول إنها هدف المقال فغرضي أن نلتفت للمبدأ وليس الواقعة- فكم رجل كان يسبح باتجاه الشرق ولما سقط، علِم أن الجهة الشرقية لا تعتبره فقفز ليسبح باتجاه الغرب. فبالأمس كان مع التيار واليوم ضد التيار بحجة التخلّف ووجوب التنقيح، ولو لم يسقط لما كان هناك تخلّف ولا تنقيح!

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

كلامٌ حول حديث «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»