المنهج السندي وإثبات النصّ على إمامة الكاظم (ع)
كَتَبَ البعضُ– مشايعاً خُطى أستاذه في "القراءةِ الخاطئةِ" لمنهج
الوثاقة السنديّ: "..على
أساس المنهج المتداول في الواقع الشّيعي فلا مشكلة لديهم في البين أصلاً؛ ويعتبرون
الرّوايات الّتي نصّت على تنصيص الصّادق "ع" على اسم خليفته هي من
المحكمات (((رغم الضّعف السّندي لمعظمها))) وعدم دلالة بعضها، وجميع الرّوايات
والسّيرة والمواقف الصّحيحة الّتي خالفتها من المتشابهات، ويضطرون إثر ذلك لتقديم
تفسيرات غريبة وما ورائيّة على الطّريقة الشّيعية المعروفة لامتناع الإمام من ذكر
اسم خليفته لخُلّص أصحابه ممّن أجمعت الطّائفة على وثاقتهم وفضلهم وعلمهم وعلوّ
مكانتهم".
ثم أضافَ بأنّه سيحاكمُ
أنصار "المنهج الأوّل المشهور والسّائد ... وفقاً
لمقاييسهم الرّجاليّة في التّصحيح والتضعيف"، واستعرض تصحيحات الشيخ
المجلسي رحمهُ الله للباب الوارد في الكافي حول النصّ على الإمام الكاظم عليه
السلام، ليخلصَ للقول "إنّ ما يُدّعى وضوحه وضرورته
في عصر ما يُسمّى بالغيبة الصّغرى وما بعده من العصور لم يكن كذلك في عصر حضور الأئمّة
"ع"".
ولنا حول ما كتبهُ ملاحظات:
أولاً: أَنّ الإستفراد بالمحاكمة
السنديّة المحضة إنما يَرِدُ على أخبار الآحاد، لا على الأخبار المتواترة ولا المستفيضة
ولا المحفوفة بقرينة تفيدُ اليقين أو الوثوق، ومثلُ هذا الخطأ الذي وقعَ فيه
البعضُ لا يقعُ فيه صِغَارُ طلبة العلم، ولئن كان هذا البعضُ غيرَ مقتنعٍ بإمتناع
تواطئ مَن نَصّ على إمامة الإمام الكاظم عليه السلام في كتاب الكافي على الكذب، فلا
أقلّ مِنْ تتبّع الجهود المبذولة في جَمْعِ الروايات التي نصّت على اسم كلّ إمام،
وعلى الإمام الكاظم (ع) بشكل خاص، ومنها مثلاً ما جمعهُ السيّد هاشم البحراني رحمه
الله في كتاب [بهجة النظر في إثبات الوصاية والإمامة
للأئمة الإثنا عشر] حيثُ أورد 27 روايةً في النصّ على الإمام الكاظم
عليه السلام.
على أنّ النصّ على الإمام
الكاظم عليه السلام لا يُختزلُ في هذه النصوص فحسب، فهنالك نصوصٌ تُعَدّدُ أسماء
الأئمة بشكلٍ تفصيلي، ومن أمثلتها حديث اللوح، ونصوص الأئمة الإثنا عشر -والتي تُسمّي
جميع الأئمة (ع)- وروايات الأنوار، وروايات عرض الإعتقادات، وحديث العرش، وغيرها من
العناوين التي نصّ تحتها على أسماء الأئمة (ع) بأسمائهم، وللاستزادة يُمكنُ
الرجوعُ إلى الباب الثاني من الجزء الأول من كتاب [منتخب
الأثر في الإمام الثاني عشر] للشيخ لطف الله الصافي الكلبيكاني حفظه
الله.
كما أنّ النصّ على الإمام
أيضاً معاضدٌ بالروايات الكثيرة التي تحدّثت عن ضرورة النصّ على العين، وبالأبواب
التي عقدها الشيخ الكليني في الكافي للنصّ على عَينِ كلّ إمام، وغيرها من الأبواب
التي تحملُ نفس المضمون، وكذلك ما تواتر من طرق الفريقين من النصّ على إثني عشر
إماماً بعد النبي صلى الله عليه وآله، والمستشكل بينَ أن يَرى عبثيّة هذا النصّ المتواتر
على عدد الأئمة أو الخلفاء أو المهديين -وفي أفضل تقاديره خُلوّهُ من القيمة
الموضوعيّة بحيث يتاحُ لكل أحدٍ أن يرسم تشكيلتهُ الخاصّة من الأئمة الإثني عشر-
أو أن يَقول بأنّ النصّ على الإثني عشر إماماً مؤيدٌ لنصٍ آخر يفصّل أسمائهم،
فليختر أهون الضررين.
ثانياً: أشارَ البعضُ إلى أنّ منشأ الحيرة التي وقعَ فيها الشيعة
أيام الإمام الصادق عليه السلام هو عدم ورود النصّ على الإمام الكاظم عليه السلام،
ولا ندري من أين خلُص إلى أن السبب منحصرٌ بإنعدامِ النصّ دون أي سببٍ آخر، وما
نقولُه أنّ الحيرة لم تكن شاملةً للجميع، لوجود جملة من الأصحاب كان ممن نصّ
الإمام الصادق عليه السلام أمامهم على إمامة الكاظم عليه السلام، وقد عددّ الشيخ
المفيد أسماء بعضهم فقال: "فممن روى صريح النص بالإمامة من أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)
على ابنه أبي الحسن موسى (عليه السلام) من شيوخ أصحاب أبي عبد الله وخاصته وبطانته
وثقاته الفقهاء الصالحين (رضوان الله عليهم): المفضل بن عمر الجعفي، ومعاذ بن كثير،
وعبد الرحمن بن الحجاج، والفيض بن المختار، ويعقوب السراج، وسليمان بن خالد، وصفوان
الجمال، وغيرهم ممن يطول بذكرهم الكتاب، وقد روى ذلك من إخوته إسحاق وعلي ابنا جعفر
وكانا من الفضل والورع على ما لا يختلف فيه اثنان" [1]،
فينتفي بذلك أصل التعميم الذي ذهب إليه البعض.
والمتأمل في حال الشيعة
بعد شهادة الصادق عليه السلام يرى أنّهم على أقسام:
- القسم الأول: كان على علمٍ بالنصّ على الإمام الكاظم عليه السلام،
ومثالهُ زرارة والمفضل بن عمر والفيض والسراج والأصحاب الذين عدّهم المفيد في كتابه الإرشاد [2] وغيرهم.
- القسم الثاني: كان على درايةٍ بالعلامات وكان يريدُ إختبارها فيمن
يدّعي الإمامة، ومنهم وفد نيسابور في القصّة المعروفة بقصّة شطيطة [3] وغيرهم، ولم يجد
هؤلاء إنطباق العلامات على عبدالله الأفطح ورأوها منطبقةً على الإمام الكاظم عليه
السلام.
- القسم الثالث: مَن آمنَ بدعوة الأفطح –الذي قضى بعد سبعين يوماً [4]
– لإلتباسٍ في إسقاط إحدى العلامات، وهي كون الإمامة في الأكبر، دون أن يستوعبوا
وجود قيدٍ لها وهو (ما لم تكن به عاهة)، وهؤلاء أيضاً على أصناف:
فقسمٌ رجعَ عن الفطحيّة إلى إمامة الكاظم عليه السلام في حياة
الأفطح، وقسمٌ رجع لإمامة الكاظم عليه السلام بعد وفاة عبدالله، وهم عامّة الفطحيّة،
وقسمٌ: وهو البعض ممن صفى من المجموعتين السابقتين، وقد بقي على القول بإمامته [5] ومن القسم
الأخير عمّار الساباطي ومن معه.
ومعاملة هذه الأقسام
الثلاثة بحكمٍ واحدٍ مجانبٌ للمنهجيّة العلميّة!
ومن جهةٍ أخرى، فإنّ
إنحراف الناس لا يُمكنُ أن يكون دائماً ناتجاً عن عدم ورود النصّ أو عدم وضوحه
وإلّأ لكان عبادة قوم موسى (ع) للعجل وطلبه من موسى (ع) أن يصنع لهم إلهاً، دالاً
على عدم وضوح النصّ من النبي موسى عليه السلام على عقيدة التوحيد، ولا يوجدُ منصفٌ
يحمّل ضلال من ضلّ من قوم نبيّ الله موسى عليه السلام له.
ولا ندري لماذا يَستبعدُ البعضُ
عناصرَ لها مدخليّة في التحفّظ على نشر النصّ على الإمام الكاظم عليه السلام على نطاق
واسعٍ من الشيعة كعنصر التقيّة، مع أنّه عنصرٌ مهمٌ لفهم خصوصيات تلك المرحلة الزمنيّة
الحرجة، ويؤيّده تحفّظ زرارة على التصريح به لما علمه من لزوم التكتّم على أمره [6]، ولا ندري كيف سيتأوّل هذا البعض رواية الإمام الرضا
عليه السلام في بيان معرفة زرارة رضي الله عنه بالنصّ على الإمام الكاظم عليه
السلام وتكتّمه عليه؟!
ثالثا: أنّ البعض في معرض الترجيح قال: "لا
نعير للرّواية أيّ اهميّة إذا ماخالفت الواقع التّاريخي المعضّد بالرّوايات الصّحيحة
والسيرة الصّريحة كما أوضحنا وسنوضح لاحقاً"، وقد تحدّث في مقالٍ سابق
-في إطار الإحتجاج على عدم النصّ على الإمام الكاظم عليه السلام- برواية نقلها
الكليني والمفيد تتحدّث عن حيرة هشام بن سالم ومؤمن الطاق الواردة وحكمَ عليها "بالصحّة"، مع أنّ فيها أبويحيى الواسطي
وهو مجهولٌ أو ضعيف، وفق مبنى العلّامة المجلسي رحمهُ الله، الذي يقول عن الحديث:
"مجهولٌ بأبي يحيى وقد يُعدُّ ضعيفاً" [7]، فإن قيل أنّ أبا يحيى هو زكريا بن يحيى، قُلنا يُحتمَل
أيضًا أنّه سهيل بن زياد ، وأقل ما يُمكن أن يُقال حول الاحتمالَين هو عدم وجود
وجهٍ واضحٍ للترجيح بينهما، وهذا كافٍ بنفسه للحكم بجهالة هذا الوارد في السند
فضعف الطريق، ناهيك عن قرائن ترجيح
كونه (سهيل بن زياد) المتهمٌ -كما عن الغضائري والنجاشي.
وكيفما كان، حتى على فرض
الصحّة ووتماميّة الدلالة التي ذهب لها البعض – ونحنُ لا نسلّم له بذلك- فنقول:
أنّ ذلك لا يُبَرّرُ القولَ بعدم وجود النصّ على الإمام الكاظم عليه السلام، لكون
النصوص التي تحدّثت عن النصّ على الأئمة متواترةً ومحفوفة بقرائن تورثُ اليقين، وفي
باب الترجيح فإن الأخبار المتواترة مقدّمة على أخبار الآحاد.
على أننا لو افترضنا عدم عِلْمِ هشام بن الحكم ومؤمن الطاق بالنصّ على الإمام
الكاظم عليه السلام، وأنّهما ما كانا يعرفان إلّا العلامات العامة، فذلك لا ينفي عدم
علم غيرهما بالنصّ عليه، وقد قال الشيخ الصدوق رحمهُ الله في كمال الدين[8]:
"أنّا لم ندّع أن جميع الشيعة عرف في ذلك العصر الأئمة الاثني عشر عليهم السلام بأسمائهم، وإنما قلنا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبر أن الأئمة بعده الاثنا عشر، الذين هم خلفاؤه وأن علماء الشيعة قد رووا هذا الحديث بأسمائهم ولا ينكر أن يكون فيهم واحد أو اثنان أو أكثر لم يسمعوا بالحديث".
"أنّا لم ندّع أن جميع الشيعة عرف في ذلك العصر الأئمة الاثني عشر عليهم السلام بأسمائهم، وإنما قلنا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبر أن الأئمة بعده الاثنا عشر، الذين هم خلفاؤه وأن علماء الشيعة قد رووا هذا الحديث بأسمائهم ولا ينكر أن يكون فيهم واحد أو اثنان أو أكثر لم يسمعوا بالحديث".
وبعبارةٍ أخرى، إنّ
الإشكال إن تمّ فإنما يفيدُ أن هشام بن سالم ومؤمن الطاق لم يكونا من القسم
الأول الذي كان يعلم النصّ على الإمام الكاظم عليه السلام، بل كانا من القسم
الثاني الذي كان على درايةٍ بالعلامات العامّة للإمام اللاحق، دون اسمه وشخصه، وفي كلا الحالين، فذلك لا ينفي عِلمَ غيرهما بالنصّ على الإمام الكاظم عليه السلام.
وما هذه الشبهة الّتي أتى
بها المستشكلُ إلّا شبهة قديمة ومستنسخة من شبهات الزيديّة، وقد أعاد إحيائها أحمد
الكاتب في كتاباته، وقد أجاب عليها العلماء منذ قديم الزمن، وهي شبهةٌ تبيّن جهل
صاحبها بالمقام الأول بمباني الإحتجاج على الآخر.
-----------------------
[1] الإرشاد، ج 2 ص 216.
[2] الإرشاد، ج 2 ص 216.
[3] مناقب آل أبي طالب، ج 3 ص 409.
[4] اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي، ج 3 ص 218.
[5] فرق الشيعة المنسوب للنوبختي، ص 127.
[6] كمال الدين وتمام النعمة، ص 103.
[7] مرآة العقول 4 ص 94.
[8] كمال الدين وتمام النعمة ص 110 -111.
تعليقات
إرسال تعليق