قيمة الرواية في البحث العقدي
كثيراً ما يكون هذا الشرط الذي يطرحه البعض في المسائل العقائدية -وهو شرط كونها يقينية- = سبباً في جعل البحث في الروايات العقائدية واستكشاف مضامينها والتدقيق في أسانيدها أمراً عبثياً، إذ الروايات العقائدية في كثير من الأحيان أخبار آحاد لا تفيد اليقين.
وبذلك يكون بذل الجهد فيها مما لا فائدة منه، فهو غير موصل لليقين المطلوب في المسائل العقائدية، وهذا بخلاف المسائل الفقهية إذ الظن(1) الذي يحصل بالأحكام الناشئ من خبر الثقة له قيمة في تنجيز الأحكام الشرعية كما يبحث في محله في علم أصول الفقه.
فهنا يطرح سؤال: ما هي قيمة الأحاديث الصحيحة -غير المتواترة- في علم العقائد ؟
الجواب: بالإمكان تصوير فوائد متعددة من النظر في الأحاديث بشكل عام والصحيح منها على وجه الخصوص وتقييمها والتدقيق في مدلولاتها وطرقها،
ومن جملة تلك الفوائد:
◾ الفائدة الأولى: أن هذه الأحاديث في المسائل العقائدية قد تبدو للوهلة الأولى غير موصلة لليقين، ولكن البحث والتدقيق في الروايات من شأنه أن يوصل لليقين في موارد متعددة، فقد يتضح للباحث بعد النظر أنها متواترة،
وحتى لو لم تكن متواترة فقد تورث له اليقين في حال تعاضدت الروايات مع بعضها البعض واختلفت طرقها، بالإضافة للقرائن التي قد تحتويها متونها، وهذه الأمور من شأنها أن توصل الباحث إلى اليقين في مسائل غير قليلة.
◾ الفائدة الثانية: حتى وإن لم توصل الأخبار إلى اليقين وأوصلت إلى الظن بنسبة معينة، فلا مانع من عقد القلب في المسألة بالمقدار الذي أثبتته الأدلة، ويكون الإيمان بها بالمقدار الذي تثبته الأدلة،
فالعقائد والمعارف التي تكون فيها الأخبار مفيدة للظن بنسبة 70% -مثلاً- يُعقد القلب عليها بهذا المقدار، وهكذا في كل مسألة، كما هو حال الإنسان في كثير من أمور حياته، فقد يصل في بعض المسائل لليقين وفي بعضها الآخر إلى الظن ولا إشكال في ذلك.
قد يقال: أن تحصيل الظن بالمسائل الاعتقادية الناشئ من الأخبار لا قيمة له في نفسه، إذ يبقى مجرد ظن وتحصيل الظن في نفسه لا قيمة له في الأمور الدينية؟
والجواب على ذلك: أن نفس الاهتمام بالآثار في الاعتقاد مما لا شك في أهميته وإن لم يفد اليقين، فهو داخل في التفقه في الدين،
فالقول بأن هذه الفكرة ثبتت من تراث أهل البيت عليهم السلام بهذه الدرجة الاحتمالية له قيمة في نفسه، فنفس معرفة أن هذا الأمر وارد في الأخبار أو أنه لم يرد، أو أنه وارد بأسانيد صحيحة أو أنه وارد بأسانيد غير صحيحة، أو أن الروايات فيه كثيرة أو قليلة أمر راجح في نفسه،
ويدل على ذلك سيرة المتشرعة القائمة على الاهتمام بالأخبار في هذا المجال وإن لم تفد اليقين، وذلك واضح جلي لمن تتبع كتبهم الواصلة إلينا ولاحظ طريقتهم.
◾ الفائدة الثالثة: النظر في الروايات والأخبار من شأنه أن يساعد في استكشاف أدلة جديدة أو إعادة النظر في بعض الأدلة الموجودة على بعض المسائل، فتارة تتعرض نفس الأخبار لذكر بعض الأدلة غير المتداولة في مقام الاستدلال،
وتارة تذكر دليلاً يتضمن ما يخالف دليلاً يذهب إليه ويستدل به البعض مما يستوجب النظر في ذلك الدليل، وتارة أخرى تذكر الأخبار بعض النتائج المخالفة لبعض النتائج التي يتوصل إليها البعض في المسائل العقائدية،
وورود أمثال ذلك يستدعي إعادة النظر في الأدلة التي أوصلت لتلك النتائج المخالفة للروايات.
وبذلك يتضح خطأ ما قد يتوهمه البعض من عدم الفائدة في النظر للأخبار في غير الفقه، والزهد فيها وعدم الاهتمام بجمعها والتدقيق في أسانيدها وتحديد الدرجة الاحتمالية المستفادة منها.
هذا، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا بناء على كون حجية خبر الثقة في الفروع من باب اعتبار الشارع ذلك الظن حجة، ويوجد قول بأن خبر الثقة في الفقه إنما يكون حجة في حال إفادته للاطمئنان لا الظن، لأن الوثوق هو الملاك في حجية خبر الثقة ولا حجية له في نفسه كما يذهب إلى ذلك السيد السيستاني حفظه الله تعالى.
تعليقات
إرسال تعليق