ما بين الشذوذ والعقد على الصغيرة
مغالطة أتت من لسان مغالط من كثرة اندكاكه مع حملات الشذوذ ودفاعه عنها أصابه مسٌّ في ذهنه مفادها أن التسامح مع الزواج [والصحيح العقد] مع الصغيرة [١] هو أولى بالانتقاد من التسامح مع علاقة بين بالغين من نفس الجنس تمت برضاهم.إن التهمة سريعة الإلقاء لكن الاجابة عنها تحتاج إلى تفكيك وهو ما يستدعي الوقت، لذلك فالنقض دومًا أسهل من الاثبات.
إنّ أول مقدمة مضمرة هي أن المنتقد يرى في العقد على الصغيرة "بيدوفيليا" - أي مرض اشتهاء الأطفال جنسيًا [٢] -في كل حالاته، والبيدوفيليا مرضٌ تسامح معه الشرع!
هذه المقدمات الفاسدة لا نسلّم بها، ومن الخطأ التسليم للمنتقد بها.
فمن ناحية فقهية فالفقيه يفتي بالدليل الذي يأخذ عنقه، ولا يقول في دين الله بهواه، ولا يحسب حساب رغبة الآخرين، والأصل في الأحكام أنها تكون عامة وتنظر للحالة العامة وليست مكيّفة بناء على الحالات الشاذة. فإن كان الدليل يدل على الجواز كان به، وإن كان لا يدل ففيه الاحتياط أو كان يدل على العكس ففيه الحرمة. وطالما أن الحكم ثبت فلا يجوز رده ولا يجوز اتهام دين الله سبحانه بنقص الحكمة وقلة الوعي وعدم الفهم. وانتقاد الفقيه على حكمه ممن لا يمتلك مرجعية أخلاقية ولا قيميّة معنوية بل تكتسيه النسبية من رأسه إلى أخمص قدميه أمرٌ عجيب! فهذا الذي يدافع عن المنحلين أخلاقيًا في أفعالهم الشاذة إما أنه كان يرفضها حين كان المنع القانوني والاجتماعي قائم في الغرب عليها، أو أنه كان يدافع عنها حينها ضد هذه القوانين، ففي الحالة الأولى قد انتقل من الشيء إلى نقيضه، وفي الثانية هو ضرب آلية الاحتكام القانوني في الغرب عرض الحائط حين خالفت هواه والآن يريد منا أن نقبلها بعدما ماشت هواه! فشخص لا يملك ميزانًا أخلاقيًا كيف له أن يحاكمنا؟
ثم إن طبيعة المجتمعات الريفية والبدوية، والمجتعات بشكل عام طوال مسيرتها التاريخية لا ترى الزواج أسرة وجنس إنما تراه ضمانًا اجتماعيًا وأمنًا معنويًا ويدًا عاملة في ضمن بيئتها ولولاه ما كان للبشر أن يعيشوا ويتوالموا، ولا يمكن إهمال هذا الشيء بذريعة أن مريضًا سيستغله! فالزواج قوام المجتمع بينما الشذوذ تدمير للمجتمع، واتهام كل من يعقد على الصغيرة بأنه مريض بيدوفيلي هو نوع من وسواس الريب، وإساءة الظن في الناس.
إن رؤية الأمور بشهوانية بحتة شأن المرضى وليس شأن العقلاء، واتهام الناس بلا دليل أمرٌ مذموم، ومثل هذا الحكم في صحة العقد إن كان له محله في المجتمع البشري سابقًا وصار اليوم بحثًا نظريًا لكون القوانين الوضعية تمنعه والشرع لم يقف بالضد منها، إلا أن أصله باق كما أن أحكام الآبار لا نحتاجها في يومنا المعاصر لاستغنائنا عنها لكنها أحكام يطلبها من لا يزال يعتمد عليها في مجتمعات كثيرة غيرنا.
إن قياس الحاضر، بقيمة الجنس الشهوي فيه ومكانته، ووجود دول ذات مؤسسات الرعاية الاجتماعية والضمان المالي، الذي لم يمض عليه قرن في عمر البشرية، بتاريخ ماض بل وحاضر كثير من دول العالم هو شأن المرفه الذي يتصور رفاهيته هي الحياة المتاحة لكل الأرض، والمغالط الذي يعتقد أن وسواسه هو الأصل الذي يُحاكم عليه الناس.
إن البيدوفيلية، كالشذوذ، أمراض أنبتتها العدمية الغربية، ونمت وتربت في ضمن رؤية مادية قوامها اللذة وترى خلاصها في الإندكاك بالدنيا كنوع من التعويض عن تلاشي عالم الميتافيزيقيا عندهم، ولأن الجنس في المفهوم الغربي مفصول عن مضمونه الاجتماعي والإنساني، وفي مجتمع فرداني يكتفي فيه الإنسان بذاته يلجأ إلى تحقيق أقصى قدر من اللذة بأقل قدر من المسؤوليات وفي أسرع وقت، وهو ما يؤدي إلى ادمان الجنس بل وابتكار آلات وأدوات وأساليب متع تتوالد يوميًا فيه لا تلتزم بأي قيود أخلاقية أو مرجعيات قيمية غير تحقيق اللذة وهيمنة الشهوة لتحقيق نقطة ارتكاز في عالم يسبح بالنسبية واللا مركزية[٣]. قد يقول القائل إن هذا في الغرب لا في غيره؟ والحال أن ما يحدث في الغرب يرشح عندنا وفي كل مكان، فانظر للغزو الفكري والفرض الاعلامي الاجباري لتطبيع الشـ ـذوذ في مجتعنا من خلال سطوة الحكومات الغربية وهيمنة وسائل إعلامها.
إن أهم مستند لمن يطرح مغالطة المساواة بين ما أباحه الله سبحانه وبين ما حرمه، هو مصادرة على المطلوب.
فمن يشتهي الأطفال يستطيع الذهاب لدولة فقيرة ليعقد على طفلة.
وآخر يشتهي الأطفال يذهب لدولة فقيرة أخرى ليتبنى طفلة ثم يمارس شذوذه.
وثالث يشتهي الأطفال يرى طفلة يخطفها ليمارس شذوذه.
لاحظ أن الفروض كلها قائمة على شخصية غير سوية يستغل إما القانون أو الشرع أو الفوضى الأمنية.
لا القانون ولا الشرع يوضعان على أساس الحالات الشاذة، فالقانون لا يبني على أن الأصل في الشرطي أنه عنيف ولا الأصل في المعلم أنه سلطوي ولا الأصل في أبلة الروضة أنها تشتهي الأطفال ولا الأصل في الجرّاح أنه دموي!
إن وجود الحالات الشاذة لا يعني نفي الحكم بناء عليها وإلا فما الفرق حينها بين المدعي وبين من ينتقد من بعض أبناء المذاهب الذين يبنون فقههم على أساس سد باب الذرائع حين يحرمون التلفزيون أو الستلايت.
وذريعة أن العقد على الصغيرة يتم بموافقة الولي دون الرجوع إليها، ذريعة سخيفة فليس الأصل في البشر أن الأب يضع ابنته رهينة في سوق النخاسة، أو أنه يربي جارية تتبادلها الأيدي، بل الأصل أن الولي يقوم بمصلحة من عليه ولايته ويرعاها. فكما أن القانون لا يحاسب الأب على إجباره ولده على التطعيم الدوائي أو إدخاله في التعليم الأكاديمي - بل يجبره - لأنه يفترض أن الأصل بالأب (أو الولي) العمل لمصلحة الابن، لذلك حين يحتاج الابن لعملية لا ينتظرون أن يبلغ الابن ليعرفوا قراره، بل يكتفون باقرار وتوقيع الأب. ولعلّ الولد إذا بلغ لا يريد هذه العملية؟ حينها القانون لا يهمه ذلك كله وغير معني بالاجابة عليه[٤].
فالبناء على مصادرات وافتراضات بغض النظر عن سياق الحكم والقضية ليس عملاً عقلائيًا. بل إن من طرائف الدعايات الغربية هذه أن هذا الزواج كان طبيعيًا جدًا إلى عهد قريب حتى ابتكروا قضية قاصر ومراهق، ويمنع عليهم أن يتزوجوا ولكن يجوز لهم إقامة علاقات مع زملائهم أو زميلاتهم في المدرسة بل وتكوين أُسر أحادية للمراهقات في أوروبا وغاية ما يهمهم الالتزام بالاشتراطات الصحية للمقاربة! ولكن مجتمعات بشرية مبنية على علاقات اجتماعية متعاضدة في قرى أو مزارع أو بلدات صغيرة لها أعرافها التي لا يمنعها الدين ولا يستنكرها العرف، نحاكمها على أساس شخصيات مريضة بنيويورك ولندن، لماذا؟ [٥]
_______________________
[١] مسألة (980): الأب والجدّ من طرف الأب لهما الولاية على الطفل الصغير والصغيرة والمتّصل جنونه بالبلوغ، فلو زوّجهم الوليّ صحّ، إلّا أنّه يحتمل ثبوت الخيار للصغير والصغيرة بعد البلوغ والرشد، فإذا فسخا فلا يترك الاحتياط بتجديد العقد أو الطلاق. هذا إذا لم تكن في العقد مفسدة على القاصر بنظر العقلاء في ظرف وقوعه، وأمّا مع المفسدة فيكون العقد فضوليّاً ولا يصحّ إلّا مع الإجازة بعد البلوغ والرشد أو الإفاقة. | لاحظ الضوابط والاشتراطات كما أتت في منهاج الصالحين للسيد السيستاني دام ظله الشريف.
[٢] هذا المرض هو مرض إدماني أي أن صاحبه مدمن على اشتهاء الأطفال فهو كمدمن المخدرات واقع تحت شهوة ادمانه فالأمر عنده يتعدى الفعل الجنسي إلى خلل نفسي وشذوذ ذهني. وهو كالمغتصب نهم لا تشبعه الطرق الاعتيادية، وهذا خلاف أمر الزواج وطبيعته بشكل بيّن، فلم التدليس بتعمية المصطلحات على العوام؟
[٣] لمزيد من التفصيل راجع ما كتبه الدكتور عبد الوهاب المسيري في مذكراته. لاختصارها راجع: عمرو شريف، ثمار رحلة عبدالوهاب المسيري الفكرية، تحت عنوان: النموذج المادي يفرز السعار الجنسي.
وللوقوف على صور وحالات السعار الجنسي في الغرب الشهواني وابتلائه بصنوف الإنحرافات الناشئة من رؤيتهم العدمية راجع هذه القناة في التلغرام:
فضائح الغرب: هل المجتمعات الغربية مثالية كما يحاول البعض الترويج لها ؟
https://t.me/nqdalgrb
[٤] لاحظ هذه الحالة، فلا القانون عاقب الأطباء على قرارهم ولا الأب حوكم على موافقته:
https://youtu.be/otbkSJh5EeU
قارن بين هذا وبين الخيار عند الصغيرة حال البلوغ في العقد.
[٥] أفادنا العلامة المنار حفظه الله بهذه الإفادة:
”أوّلاً: الزواج بالصغيرة لا يعني مجامعتها وإنما هو عقد فقط، وهذا لا يعني ممارسة الجنس.
ثانيًا: الزواج فيه تكوين أسرة وفيه جنس، والجنس مكيّف لتكوين الأسرة وبقاء البشرية.
وهذا هو النظام الانساني بل حتى الحيوانات تحرص على هذا.
فالشذوذ كيف يكوّن أسرة وكيف يتم تطويع الجنس لتكوين أسرة؟
إن حركة الشذوذ هي حركة شهوانية يراد استغلالها ضد النظام الإنساني بحجة أنها ضد الدين، والشهوانيون الشاذون لا يفهمون مايساقون إليه وأن الشيطان وحزبه من أعداء الإنسان يُزينون لهم التجاهر والكلام السافل، بينما يحب الله التستر على المخالفات ولا يحب التجاهر بها.
إن هؤلاء لا يفهمون النظام الإنساني، ويعتقدون أن إنفلات الشهوات حقٌّ دائمًا بينما النظام الإنساني يدعوك لاستغلال الشهوات واستعمالها بأبعد ما تستطيع ضمن الهدف السامي للشهوة وليس للشهوة الخالية من الهدف والنتاج. إن هذا الأمر يحتاج لفكر ولعقل سليم وفطرة سليمة، ولكن الفطرة والعقل يتشوشان بالمغالطات والجهل والثقافة المعاكسة للنظام الإنساني.
حتى القانون الوضعي يرى العلاقة الشاذة خارجة عن القانون، فحتى الوقت القريب لم تقبل أي محكمة بالمثلية ولكن حين انتشرت الفاحشة بين الناس وأخذت ممارسة الجنس لا تقف عند حدود، فالأب مع أبنائه والأم مع أبنائها والأخوة فيما بينهم أصبحت شائعة في مجتمعات منفلتة ولا تعرف النظام الإنساني ولا تعرف حتى القانون الوضعي، فقامت بعض الدول التي تمارس المثلية من رؤسائها إلى قضاتها وقاضياتها بالسماح لزواج الشاذين، ولكن حين سئل الجميع هل هذه الزواج طبيعي يشبه الزواج الإنساني العادي فكان الجواب إن هذا اختيار الأفراد وإن لم يكن طبيعيًا منتجًا لمجتمع وحضارة؛ وهذا قمة التخلف.“
____________________________________________
*ملاحظة: نشر هذا الموضوع أولاً في منتدى الفكر (http://feker.org).
تعليقات
إرسال تعليق