متى أسلم الحمزة بن عبد المطلب عليه السلام ؟



إن المتتبع للسيرة العطرة والخاتمة الشريفة لهذا البطل الهاشمي الضرغام يُرجّح بأنه لم يشرك بالله طرفة عين وكان مؤمناً موحداً من أول عمره،  والذين يذكرون تأخر إسلامه بعد البعثة بخمس أو ست سنين هم المؤرخون كابن هشام والمقدسي وأمثالهما . ولا غرابة ان يصدر منهم ذلك، وقد اتهموه بشرب الخمر - وحاشاه - بعد إسلامه !

ولكن هذا الكلام - أعني تأخر إسلامه - لايساعد عليه الاعتبار والنظر، بل غير قابل للتصديق. والذي يقوى في النظر بأن سيدنا الحمزة (ع) كان من المسلمين الأقدمين السابقين الذين لم يشركوا بالله طرفة عين.

ومما يُعاضدُ قِدم وأصالة إسلامه وإيمانه أمور :
الأول: إن عُمْر الحمزة حين البعثة كان على الأقل ٤٢ سنة، أي سن الكمال والنضج والإدراك. وقد وُلد وتربى في بيت الإيمان والتوحيد - بيت عبد المطلب - مع نقاء عنصره وطهارة ذاته[1]، فكيف يبقى خمس سنين كافراً والعياذ بالله؟  في حين كان قد أسلم العشرات قبله الذين هاجروا إلى الحبشة ونافوا على الثمانين بين رجل وامرأة ، وفيهم على ماذكر ابن كثير : عثمان بن عفان،  وعثمان بن مضعون، وحاطب بن عمرو، والزبير بن العوام، و عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف... الخ..
ولا نناقش في ذلك، ولكن نتساءل : أفكل هؤلاء وغيرهم أسلموا، ولم يُسلم الحمزة ؟؟
بل هناك أشخاص أقل شأناً ومقاماً من الحمزة عليه السلام، ولا يقاسُون به كانوا على الحنيفية والتوحيد - من قبل البعثة - كورقة بن نوفل وقس بن ساعدة و زهير بن أبي سلمى وغيرهم.  فكيف بمن تسنم رتبة سيد الشهداء وأسد الله وأسد رسوله!
فالمعتَقد - وجداناً بل وبرهاناً - إن الحمزة (ع) كان مؤمناً على الحنفية دين آبائه قبل البعثة.


الثاني:
رووا في سبب إسلامه: حينما قام أبو جهل بفعلته الخسيسة وأساء إلى النبي صلى الله عليه وآله وشتمه وعلم مولانا الحمزة بذلك فتوجه مغضباً إلى أبي جهل وهو جالس مع رؤوس المشركين بالمسجد الحرام  و قام على رأس أبي جهل ورفع القوس فضربه بها فشجه شجةً منكرة، ثم قال أتشتمه ؟ فانا على دينه أقول ما يقول، فرُدَ ذلك علي ان استطعت!
ولما سأله رؤوس الشرك : هل صَبئت إلى دينه ؟
فأجاب (عليه السلام) : وما يمنعني ، وقد استبان لي منه : أنه رسول الله ، والذي يقول حق"
[2].

أقول:
هذه الحادثة التأريخية هي التي يعول عليها ابن هشام وغيره في بدء اسلام  الحمزة (ع)،   وأقول : إن الحمزة يخبر عما كان عليه ولا زال عليه، وإنه كان ولا زال على دين رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لا إن هذه الاستبانة ابتدائية حادثة، وإلا فهل يعقل - بالله عليك - أن يبقى الحمزة (ع) ذو العقل الكامل وهو من أقرب الناس إلى رسول الله (ص) جاهلاً بحقيقة الرسالة المحمدية مصراً على الكفر لمدة خمس سنوات واستبان له الحق بعد ذلك، فما الذي كان خافياً عليه من أمر الرسالة واستبان له ذلك اليوم؟
نعم ربما يكون كاتماً لإيمانه لمصلحة الرسالة وأعلن إسلامه وأصحر به في ذلك اليوم عندما رأى حلول الوقت المناسب لذلك، أو بعد أن أذن له النبي صلى الله عليه وآله بذلك.


الثالث:
إن الأيات المـــــُأولة في مولانا الحمزة وما تضمنته من مدح وثناء، تُقوّي طهارة أصله وسلامة عقيدته وأتبرك بذكر آيتين :
الأولى: قوله تعالى ﴿منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾،  وقد سُئل أمير المؤمنين (ع) وهو على منبر الكوفة عن هذه الآية فقال : "اللهم إغفر لي، هذه الآية نزلت في، وفي عمي حمزة ، وفي إبن عمي عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، فأما عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر ، وأما حمزة قضى نحبه شهيداً يوم أحد ، وأما أنا فأنتظر أشقى الأمة يخضب هذه من هذه".[3]

الثانية:
 قوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر﴾
 ورد في الكافي الشريف بسندٍ صحيح عن أبي بصير ، عن أحدهما عليهما‌ السلام: "وكان علي وحمزة وجعفر صلوات الله عليهم الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله لا يستوون عند الله"[4].
وغيرهما من الآيات البينات.
والملاحظ أن الحمزة عليه السلام كثيراً ما يُقرن بالإمام علي عليه السلام في الفضائل القرآنية والحديثية مما يدل على إنه تِلوُ المعصوم في المقام والكمال.


الرابع:
الأحاديث الشريفة الكثيرة التي تضمنت مناقبه العالية ومنها :
في أمالي الصدوق عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أحب إخواني إلي علي بن ابي طالب (عليه السلام) وأحب أعمامي إلي حمزة"[5].

وفي بصائر الدرجات عن مولانا ابي جعفر(عليه السلام) قال: "على قائمة العرش مكتوب: حمزة أسد الله وأسد رسوله و سيد الشهداء "
[6].

وفي بشارة المصطفى في حديث مفصل قال (صلى الله عليه وآله): "ما من نبي الا وقد خصه الله تبارك وتعالى بوزير وقد خصني الله تبارك وتعالى بأربعة : اثنين في السماء و اثنين في الأرض فأما اللذان في السماء فهما جبرائيل و ميكائيل واما اللذان في الأرض فعلي بن ابي طالب و عمي حمزة"
[7].

ورد في ظهور الامام المهدي المنتظر(عليه السلام): " ...ثم يقوم الحسين(عليه السلام) مخضبا بدمه - إلى أن قال - وعن يمين الحسين (عليه السلام) حمزة أسد الله في أرضه وعن شماله جعفر بن ابي طالب"
[8].
فهذه المناقب العالية - وغيرها كثير - لاتليق إلا بمن محض الإيمان محضاً.. ولم يدنسه الشرك لحظة..!!


تتميم :
هل نزلت هذه الآية المباركة التالية: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾ في إسلام الحمزة (ع)؟
والجواب :لم يثبت ذلك ، وإليكم أقوال المفسرين :

قال الشيخ الطوسي في تفسيره التبيان:
"اختلفوا في من نزلت هذه الآية، فقال ابن عباس والحسن وغيرهما من المفسرين: نزلت في كل مؤمن وكافر. وقال عكرمة: نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل، وهو قول أبي جعفر (ع). وقال الضحاك: نزلت في عمر بن الخطاب وقال الزجاج: نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وأبي جهل. والأول أعم فائدة، لأنه يدخل فيه جميع ما قالوه"[9].

وفي مجمع البيان للشيخ الطبرسي:
"قيل: إنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وأبي جهل بن هاشم، وذلك أن أبا جهل آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبر بذلك حمزة، وهو على دين قومه، فغضب وجاء ومعه قوس.... الخ"[10].
ثم ذكر الطبرسي الوجوه الأخرى للنزول.

ويلاحظ إن الشيخ الطوسي وهو أقدم عصراً وأكثر علماً من الشيخ الطبرسي رحمهما الله لم يذكر نزولها في الحمزة بل ينقل قولاً آخر لابن عباس!
كما إن الطبرسي نفسه نسب هذا القول إلى؛ ( القيل) وهو من أضعف النقول، حيث جهالة الراوي عن بن عباس.


ماروي عن أهل البيت في تفسير الآية :
في تفسير علي بن إبراهيم قوله: ( أو من كان ميتا فأحييناه) قال: "جاهلا عن الحق والولاية فهديناه إليها (وجعلنا له نورا يمشى به في الناس) قال: النور الولاية (كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) يعنى في ولاية غير الأئمة عليهم السلام"[11].

في تفسير العياشي عن بريد العجلي قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلناه نورا يمشى به في الناس) قال: "الميت الذي لا يعرف هذا الشأن يعنى هذا الامر، (وجعلنا له نورا) إماما يأتم به؟ يعنى علي بن أبي طالب، قال: فقوله (كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها فقال بيده هكذا هذا الخلق الذي لا يعرف شيئا"
[12].

في تفسير نور الثقلين عن على بن إبراهيم : علي بن أبي حمزة عن أبي إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال في حديث طويل: "فالحي المؤمن والميت الكافر، وذلك قوله عز وجل (أو من كان ميتا فأحييناه) فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر وكان حياته حين فرق الله عز وجل بينهما بكلمته، كذلك يخرج الله جل وعز المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور، ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله إلى النور وذلك قوله عز وجل (لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين)"
[13].


فسلام عليك ياعم رسول الله وياسيد الشهداء ورحمة الله وبركاته..
والحمد لله على هدايته لدينه والتوفيق لما دعا إليه من سبيله والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
 ---------------

[1] البيت وإن لم يكن علة تامةً للإيمان، إلا أنه من المقتضيات القوية للإيمان، وطيبُ خاتمته منبئٌ عن طيب أوله، ناهيك عن ما ورد في شأنه من الروايات حتى وصل مدحه العرش مما لا يكون لمن تلوث بالشرك ساعة، مضافًا إلى ما ورد من تربيته لجعفر بن أبي طالب في بيته حسب بعض الروايات.
[2] السيرة النبوية لابن هشام، عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، أبو محمد، جمال الدين (المتوفى: 213هـ) تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة: الثانية، 1375هـ - 1955، ج1 ص 292، سلام حمزة رحمه الله  (إيقاع حمزة بأبي جهل وإسلامه).
[3] الفصول المهمة في معرفة الائمة،  علي بن محمد بن أحمد المالکی المکي، الطبعة الأولى: 1379 هـ، دارالحدیث، قم، ج 1  ص 612، والصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة ، أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، شهاب الدين شيخ الإسلام، أبو العباس (المتوفى: 974هـ) المحقق: عبد الرحمن بن عبد الله التركي - كامل محمد الخراط الناشر: مؤسسة الرسالة - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ - 1997م، ج 2 ص 391
[4] الكافي، للشيخ الكليني،  ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله،  تحقيق: تصحيح وتعليق : علي أكبر الغفاري، الطبعة: الثالثة سنة الطبع: 1367 ش، المطبعة: حيدري الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران، ج 8 ص 203 ح (245)
[5] الامالي للشيخ الصدوق،  أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن موسى بن بابويه القمي تحقيق قسم الدراسات الاسلامية - مؤسسة البعثة، قم الطبعة: الاولى 1417 ه‌ـ، ص 647 ، ح (879 / 7).
[6] بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد (ع)، للثقة الجليل والمحدث النبيل شيخ القميين أبو جعفر محمد بن الحسن بن فروخ " الصفار " المتوفى سنة 290 من أصحاب الإمام الحسن العسكري تقديم وتعليق وتصحيح العلامة الحجة: الحاج ميرزا محسن " كوچه باغي " منشورات الأعلمي – طهران، ص 141 ح (1)
[7] بشارة المصطفى صلّى الله عليه وآله لشيعة المرتضى عليه السلام،  عماد الدين أبي جعفر محمد بن أبي القاسم الطبري،  المحقق: جواد القيّومي الاصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي، ص 139 ح (89).
[8] بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، الشيخ محمد باقر المجلسي " قدس الله سره، دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان ج 53 ص 23
[9] تفسير التبيان في تفسير القرآن، شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (385 - 460 ه) ،  تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي، الطبعة الأولى: 1409 هـ،  ج  4  ص 259
[10] مجمع البيان في تفسير القرآن، أمين الاسلام أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري حققه وعلق عليه لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين قدم له الامام الأكبر السيد محسن الأمين العاملي الجزء الرابع منشورا ت مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان ج 4 ص 151
[11] تفسير القمي لأبي الحسن علي بن إبراهيم القمي (رحمه الله) (من أعلام قرني 3 - 4 ه‍)، صححه وعلق عليه وقدم له حجة الاسلام العلامة السيد طيب الموسوي الجزائري، مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر قم – إيران، ج 1 ص 215
[12] كتاب التفسير لمؤلفه المحدث الجليل أبي النظر محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي المعروف بالعياشي رضوان الله عليه، تصحيح وتحقيق وتعليق الحاج السيد هاشم الرسولي المحلاتي، المكتبة العلمية الاسلامية طهران سوق الشيرازي ج 1 ص 376 ح (1/90)
[13] تفسير نور الثقلين لمؤلفه العلامة الخبير والمحدث النحرير الشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي قدس سره المتوفى سنة 1112 الطبعة الثانية صححه وعلق عليه الفاضل المحقق الحاج السيد هاشم الرسولي المحلاتي،  مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع قم - إيران ص 764 ح (271)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

هل ورد أن "أبا صالح" كنيةٌ للمهدي عج؟