فوائد حول التراث الإسلاميّ: أهميّة التخريج والعزو إلى المصادر بدقّة


يُعدّ تخريج المصادر من أهمّ وظائف المؤلّف أو المحقق لأيّ متن تراثيّ في أيّ علمٍ من العلوم المختلفة، وله فوائد جمّة، منها:
١. استشكاف مدى دقّة المؤلف في نقولاته عن الآخرين.
٢. تعزيز استشهاد المؤلف بالشواهد المدعّمة لاستدلاله.
٣. خدمة القرّاء والباحثين بالوقوف على مصادر الفكرة المطروحة أو أدلّتها.

ورغم ما لهذا الأمر من أهميّة وحاجةٍ إلى الدقّة، إلّا أنّنا نُفاجئ بما يقومُ به بعض المؤلفين أو المحققين من إخراج للمصادر في هوامش البحث أو التحقيق بشكل مستهجن، فتجدُ أنّ بعضهم يتعاملُ مع التخريج على أنّه "الإتيان بأيّ مصدرٍ للحديث أو القول المنقول" دونَ أيّ مراعاةٍ للأقدميّة، أو يقوم بالتكرار غير النّافع والتطويل المُملّ.

أما بالنسبة لعدم مراعاة الأقدميّة: فلا يخفى أنّ الأولويّة في التخريج للمصادر الأكثر قِدماً، وأنّ النقل عن كتب متأخّرة جداً مع وجود المصدر الأقدم أو المصدر الأصل ينبغي أن يُعَدَّ نقصاً وقصوراً في العمل.
مثلاً: لو حقّقَ باحثٌ كتاباً نحوياً، وقد ذكرَ فيه المؤلّفُ قولاً لسيبويه، وكان هذا القول المنقول عن سيبويه موجودًا في كتابه (الكتاب)، فهل يصحُّ من المؤلِّف مثلاً أن يذكر كتاب (شذرات الذهب) لابن هشام الأنصاريّ كمصدرٍ لتوثيق رأي سيبويه، لا سيّما وأنّ كلامه موجودٌ في كتابه الأصل؟!

أو
كان المؤلّف أو المحقّق بصدد نسبةِ رأيٍ للشيخ المفيد في مسألة كلاميّة، وهذا الرأي موجودٌ في كتابه (أوائل المقالات)، فهل من السديد أن يُهمله المؤلف ويذكر كتاباً متأخّراً بقرون عديدة ليوثّق تلك النسبة؟!

أو
كان المؤلف أو المحقق بصدد نسبة رأي أصولي للشيخ الآخوند الخراسانيّ في مسألة أصولية، وكان هذا الرأي مدوّناً في كتابه (كفاية الأصول)، فهل من السديد أن يُهمله المؤلف ويوثّق رأيَ الأخوند من حلقات السيّد الشهيد مثلاً؟!

ومن طرائف ما رأينا من تخريجاتٍ عجيبةٍ
، أنّ بعضهم قد ذكر في بحثه حديثاً موجوداً في كتب العلماء المتقدمين كالكليني والصدوق والطوسيّ، وقد عزاهُ إلى (تفسير البرهان) للسيد هاشم البحراني!! وأطرفُ منه ما رأيتُه في كتابٍ ذكر مؤلّفه حديثاً قد روي مثله في (الكافي) باختلافٍ يسير جدّاً، ولكنّه مطابقٌ تماماً لمعناه، ولكنّ المؤلف خرّجه في الهامش عن (تفسير الميزان) للسيد الطباطبائي!! ناهيك عن تخريج البعض للأحاديث من (جامع السعادات) و(منية المريد) مع وجود تلك الأحاديث في كُتبٍ أسبق بمئات السنين!!

ورحم الله الفقيه الفاضل الهنديّ - طيّب الله ثراه - إذ قال: (ووصيّتي إلى علماء الدين وإخواني المجتهدين:...، ولا يعتمدوا في الأخبار إلَّا أخذها من الأُصول، ولا يعوّلوا ما استطاعوا على ما عنها من النقول، حتى إذا وجدوا في التهذيب عن محمّد بن يعقوب مثلًا خبراً فلا يقتصروا عليه، بل ليجيلوا له في الكافي نظراً، فربّما طغى فيه القلم أو زلّ، فعَنَّ خِلافٌ في المتن أو السند جلّ أو قلّ)، انظر: كشف اللثام، ج١١، ص٥٤١-٥٤٢.

وها هو الفاضل الهندي يوصي بمراجعة أحاديث (تهذيب الأحكام) لو كانت موجودة في كتابٍ أقدم منه كـ(الكافي)، فكيف لو رأى اليوم ما يفعله البعض من تخريج الحديث من مصادر تبعد عن الكافي والتهذيب مئات السنين؟!

وأما بالنسبة إلى التكرار والتطويل: فهما مما يشين العمل أيضاً؛ ومن ذلك أن يقوم المؤلف أو المحقق بتكثير مصادر الحديث أو القول المنقول، كأن يكون الحديث في كتاب (الخصال) مثلاً، فيحشد له عشرة مصادر فرعيّة في الهامش مع أنّ الحديث منحصرٌ برواية (الخصال)، فتراه يذكر ضمن مصادر الحديث (إثبات الهداة) و(مستدرك الوسائل) و(تفسير البرهان) و(حلية الأبرار) وغيرها من المصادر المتأخرة التي لا حاجة للتخريج منها غالباً مع حضور المصدر الأقدم والأضبط، والاستطراد في ذكر المصادر الفرعيّة هو تطويلٌ بلا طائل. نعم؛ إن كان هناك نكتة علميّة تتعلق بتصحيح لفظةٍ أمكن الإشارة إلى مصدر متأخرٍ كما لو أشير للبحار والوسائل، وأما التوسع المفرط في المصادر الفرعيّة فلا أدري له وجهاً مقبولاً، ومن غرائب ما رأيناه في هذا المقام أنّ أحدهم أراد تخريجَ دعاءٍ موجود في (الصحيفة السجاديّة) فأشار في الهامش إلى وجوده فيها، ثمّ ثنّى بمصدرٍ آخر وهو (حاشية ابن إدريس على الصحيفة السجادية)، ثم وجد دعاءً مروياً عن الإمام السجاد عليه السلام فعزاه في الهامش إلى (الصحيفة السجادية الجامعة) التي صنعها السيد المرحوم محمد باقر الأبطحي، والأمرُ كما ترى!!
وهذا الأمرُ ينطبق أيضاً على من كتب في المسائل الخلافيّة مع أهل السنة، فترى أنّ الحديث مرويٌّ في (مسند أحمد بن حنبل)، ولكنه يقوم بإخراج الحديث عن المسند وكتب أخرى فرعيّة لا تضيف أيّ قيمة إضافية لتعزيز الاستدلال بالحديث، فتراه يحشو تخريج الحديث عن (مجمع الزوائد) و(كنز العمال) و(إتحاف المهرة) و(الجامع الصغير)، وهلّم جراً من هذا التطويل والحشو الذي ينفخ الكتب بلا فائدةٍ يُعتدّ بها.

ولذلك:
ينبغي مراعاة هذه المسائل خلال التخريج في الدراسات والتحقيقات؛ لتقديم صورة علميّة متقنة عن الفكرة التي نكتب فيها أو نحققها، ونقلل من الاستطراد الذي لا نفع منه، ويشكل عبئاً من جهة الوقت واستهلاك الورق وتضخيم بعض الكتب بشكل غير مبرّر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

هل ورد أن "أبا صالح" كنيةٌ للمهدي عج؟