كيف ينبغي أن يكون حال المؤمن في مصيبة الإمام الحسين عليه السلام ...؟
مهما تعاظمت مراسمُ الإحياء العاشورائي، فلا تزال قاصرة عن بلوغ التأسي المنشود. ولنقف على بعض درجات التأسي المنشود، فلنطالع كيف تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام- الأسوة الحسنة لهذه الأمة- مع مصيبة الحسين عليه السلام.
فقد ورد في الروايات الشريفة أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان (يبكي)[1] (وينتحب) [2] وفي بعضها (ينشج)[3] على مصيبة الإمام الحسين عليه السلام، والنحيبُ كما في المعاجم هو: (البكاء الشديد أَو تَنَفُّس سَريع عَنيف مُتَقَطِّع مَصْحوب بالبكاء ناتِج من انفِعال وتَقَبُّض تَشَنُّجيّ واخْتِلاجات مُتتابِعة في عَضَلات الصَّدْر)[4]، وأمّا النشيج فهو: (الصوت . والنشيج : أشد البكاء ، وقيل : هي مأقة يرتفع لها النفس كالفؤاق . وقال أبو عبيد : النشيج مثل البكاء للصبي إذا ردد صوته في صدره ولم يخرجه) كما في لسان العرب [5]، ولك أن تطلق الخيال لذهنك لتتصور شدّة بكاء النبي صلى الله عليه وآله وعظيم تفجّعه بالحسين عليه السلام.
وأمّأ مولاتنا الزهراء عليها السلام، فيكفيك لمعرفة عظيم تأثرها أن تقرأ شاهداً روائيا كالذي رواهُ ابن قولويه رضي الله عنه عن أبي بصير رضي الله عنه عن إمامنا الصادق عليه السلام في كتاب كامل الزيارات حيث قال: «يا أبا بصير إن فاطمة لتبكيه وتشهق» [6]، والشهقُ كما في تاج العروس: (إِذا تَرَددَ البُكاءُ في صَدرِه كما في العُبابِ وفي اللسان : رَدد البكاء في صَدرِه) [7].
ولشهقة الزهراء عليها السلام أثرٌ عظيم على الملائكة، ففي الحديث عن عبدالملك بن مُقَرِّن عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «وإنّها- أي الزهراء عليها السلام- لتشهق شَهْقَة فلا يبقى في السّماوات ملك إلاّ بكى رحمةً لصوتها، وما تسكن حتّى يأتيها النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فيقول : يابُنَيّة قد أبكيتِ أهل السَّماوات وشَغَلْتِهم عن التَّسبيح والتَّقديس فكُفّي حتّى يقدّسوا ، فإنَّ الله بالغٌ أمره»[8].
ويتجاوز تأثير شهقة الزهراء عليها السلام المكلومة عاَلم الملائكة، لتشملَ جهنم والبحار[9]، مما حدا بأبي بصير رضي الله عنه – على جلالة قدره- أن يستعظم الخطب، فقال له الإمام الصادق عليه السلام: «أعظم منه ما لم تسمعه»، ثم قال له: «يا أبا بصير اما تحب أن تكون فيمن يسعد فاطمة (عليهما السلام)؟! » فتحولت هذه الكلمات البسيطة إلى ما يشبه البركان في صدر أبي بصير فقال: « ...فبكيتُ حين قالها فما قدرت على المنطق، وما قدرت على كلامي من البكاء، ثم قام إلى المصلي يدعو، فخرجت من عنده على تلك الحال، فما انتفعت بطعام وما جاءني النوم، وأصبحت صائما وجلا حتى أتيته، فلما رأيته قد سكن سكنت .. ».
ولأنّ الرزية عظيمة على أهل البيت (عليهم السلام)، فقد كانت أيام إمامنا السجّاد عليه السلام بعد أبيه مَكسوةً بالحزن والأسى، يقولُ ابن نما في كتابه مثير الأحزان: «فَقَدْ رُوِّیتُ عَنْ وَالِدِی رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَیْهِ أَنَّ زَیْنَ الْعَابِدِینَ (ع) کَانَ مَعَ حِلْمِهِ الَّذِی لَا تُوصَفُ بِهِ الرَّوَاسِی وَ صَبْرِهِ الَّذِی لَا یَبْلُغُهُ الْخِلُّ الْمُوَاسِی شَدِید الْجَزَعِ وَ الشَّکْوَى لِهَذِهِ الْمُصِیبَةِ وَ الْبَلْوَى بَکَى أَرْبَعِینَ سَنَةً بِدَمْعٍ مَسْفُوحٍ وَ قَلْبٍ مَقْرُوحٍ یَقْطَعُ نَهَارَهُ بِصِیَامِهِ وَ لَیْلَهُ بِقِیَامِهِ فَإِذَا أُحْضِرَ الطَّعَامُ لِإِفْطَارِهِ ذَکَرَ قَتْلَاهُ وَ قَالَ وَا کَرْبَاهْ وَ یُکَرِّرُ ذَلِکَ وَ یَقُولُ قُتِلَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ جَائِعاً قُتِلَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ عَطْشَاناً حَتَّى یَبُلَّ بِالدَّمْعِ ثِیَابُهُ»[10]. ويروي الإمام الباقر عليه السلام أنّ مولى لإمامنا السجاد عليه السلام استكثر شدة تفجعه قائلًا: يا ابن رسول الله أما آن لحزنك أن تنقضي؟!، فقال له: «ويحك إن يعقوب النبي عليه السلام كان له اثنا عشر ابنا فغيب الله عنه واحدا منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حيا في الدنيا وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟!». [11]
ولذكر الحسين عليه السلام عند إمامنا الصادق عليه السلام وقعٌ عظيم، فعن أبي عُمارة المُنشِد قال: «ما ذُكِرَ الحسين عليه السلام عند أبي عبدالله عليه السلام في يوم قطّ فَرُئيّ أبو عبدالله مُتَبَسِّماً في ذلك اليوم إلى اللّيل وكان يقول : الحسين عليهالسلام عَبرة كلِّ مؤمن».[12] وإذا جاء يوم العاشر من محرم انكسف لونه وتحادرت الدموعُ على خديه مثل حبّات اللؤلؤ، فقد روى الشيخ الطوسي رحمه الله في مصباح المتهجّد [13] والمشهدي رحمه الله في مزاره [14] بسندٍ صحيح عن عبد الله بن سنان قال: «دخلت على سيدي أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام في يوم عاشوراء فألفيته كاسف اللون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط. فقلت: يا ابن رسول الله! مم بكاؤك؟ لا أبكي الله عينيك، فقال لي: أو في غفلة أنت؟ أما علمت أن الحسين بن علي أصيب في مثل هذا اليوم؟»[15].
وأمّا إمامنا الكاظم عليه السلام، فقد كان يَتَجلبَبُ بالحزن ويصطبغُ بالكآبة في أيام الحسين عليه السلام، يقولُ إمامنا الرضا عليه السلام في صفة حزن أبيه (ع): «كَانَ أَبِي إِذَا دَخَلَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُرَى ضَاحِكاً ، وَ كَانَتِ الْكَآبَةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْضِيَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْعَاشِرِ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وَ حُزْنِهِ وَ بُكَائِهِ ، وَ يَقُولُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ»[16].
وعلى نهجه سار إمامنا الرضا عليه السلام، بحيث تقرّحت أجفانه من شدة البكاء في ذلك يقول: «إِنَّ يَوْمَ الْحُسَيْنِ أَقْرَحَ جُفُونَنَا ، وَ أَسْبَلَ دُمُوعَنَا ، وَ أَذَلَّ عَزِيزَنَا بِأَرْضِ كَرْبٍ وَ بَلَاءٍ ، أَوْرَثَتْنَا الْكَرْبَ وَ الْبَلَاءَ إِلَى يَوْمِ الِانْقِضَاءِ ،فَعَلَى مِثْلِ الْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ الْبَاكُونَ ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ عَلَيْهِ يَحُطُّ الذُّنُوبَ الْعِظَامَ»[17]، وفي استخدام الإمام عليه السلام لضمير الجمع، إشارة إلى أنّ هذا هو حال جميع أهل البيت عليهم السلام.
وما هذه النصوص إلا غيضٌ من فيض في بيان حال المعصومين عليهم السلام مع مصيبة الحسين عليه السلام، وما يعتريهم من تغيّر حال، فإذا رأيت مؤمناً متجلببًا بالكآبة يَنْحَبُ في مجلسِ عزاء مولاه، و آخرَ يصرخُ ويندب، وثالثًا ينخسفُ حاله فلا طاقة له لمفاكهة، ولا شهيّة لديه لطعام أو شراب، فاعلم أن هذا هو الأصل في التأسي، لا أنّه أمرٌ مبالغٌ فيه، وحريٌّ ببعضِ مَنْ يَستعظمُ ما يَحلُّ بالآخرين من انخساف حالٍ من أثر الرزيّة، أن يوجّه اللوم لتقصيره!!!
--------------------------------
[1] جمع الأخ الشيخ إبراهيم جواد والأخ محمود جناحي طائفةً مما صحّ من بكاء رسول الله صلى الله عليه وآله على الإمام الحسين عليه السلام في كتابٍ يمكنُ مطالعته عبر الرابط التالي: https://alfeker.net/library.php?id=4578
وفي الإجمال، فبكاء النبي صلى الله عليه وآله على الحسين عليه السلام متواترٌ.
[2] إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى: 840هـ)، تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم، تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي بإشراف أبو تميم ياسر بن إبراهيم، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999 م ، دار الوطن للنشر، الرياض، كتاب المناقب: مناقب الحسين بن على بن أبي طالب رضي الله عنهما ج 7 ص 238، وقال البوصيري بعد إدراج الحديث: "رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مُخْتَصَرًا عَنْ عَائِشَةَ أَوْ أُمِّ سَلَمَةَ عَلَى الشَّكِّ."
[3] رواهُ الطبراني في المعجم الكبير بإسناده عن الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثنا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، ورواهُ أبونعيم في كتاب معرفة الصحابة بإسناده عن جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، ثنا أَبُو حُصَيْنٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَن أُمِّ سَلَمَةَ، وقال السيوطي في جامع الأحاديث: " أخرجه الطبرانى (3/108، رقم 2819) ، قال الهيثمى (9/189) : رواه الطبرانى بأسانيد ورجال أحدها ثقات."
المعجم الكبير، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (المتوفى: 360هـ)، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية – القاهرة، الطبعة: الثانية، دار الصميعي - الرياض / الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1994 م، مسند النساء، مسند أم سلمة، ج 23 ص 289 ح (637).
معرفة الصحابة، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني (المتوفى: 430هـ)، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، الناشر: دار الوطن للنشر، الرياض الطبعة: الأولى 1419 هـ - 1998 م، ج 2 ص 666 ح(1783).
جامع الأحاديث، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) ضبط نصوصه وخرج أحاديثه: فريق من الباحثين بإشراف د على جمعة (مفتي الديار المصرية) طبع على نفقة: د حسن عباس زكى، مسانيد النساء: مسند أم سلمة، ج 40 ص 264 ح (43610).
[4] معجم اللغة العربية المعاصرة، د أحمد مختار عبد الحميد عمر (المتوفى: 1424هـ) بمساعدة فريق عمل الناشر: عالم الكتب، الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م، ج 3 ص 175
[5] لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (المتوفى: 711هـ) الناشر: دار صادر - بيروت الطبعة: الثالثة - 1414 هـ، باب (ج) فصل النون، ج 2 ص 377.
[6] كامل الزّيارات، أبو القاسم جعفر بن محمد بن بن جعفر بن موسى بن قولويه القمي رحمه الله، الناشر: مكتبة الصدوق، (باب 26) بكاء جميع ما خلق اللّه على الحسين بن عليّ عليهماالسلام، ص 85 ح (7).
[7] تاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205هـ) المحقق: مجموعة من المحققين، دار الهداية، ج 25 ص 540
[8] كامل الزيارات، مصدر سابق، ص 92 ح (16)
[9] كامل الزيارات، مصدر سابق، ص 85 ح (7)
[10] مثير الأحزان، الشیخ نجم الدین جعفر بن محمد بن جعفر بن هبه الله بن نما الحلی (ره) (المتوفى سنة 645 ه)، تحقیق و نشر : مدرسه الامام المهدی (علیه السلام) قم المقدسه، الطبعه الثالثه: 1406 ه ق ، مطبعه أمیر-قم، ص 115.
[11] الخصال، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (المتوفى 381 ه)، تحقيق: علي أكبر الغفاري، طبعة 1403 هـ، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة، 517-519 ،ح (4)
[12] كامل الزيارات، مصدر سابق، ص 116 ح (2).
[13] مصباح المتهجد، أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي المشتهر بشيخ الطائفة والشيخ الطوسي (385 - 460 ه ق)، الطبعة الأولى 1411 هــ - 1991 م، مؤسسة فقه الشيعة بيروت – لبنان، ص 782
[14] المزار، الشيخ محمد بن المشهدي، تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني، الطبعة: الاولى: 1419 هـ ، مؤسسة النشر الاسلامي، قم ، ص 473
[15] مصباح المتهجد، أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي المشتهر بشيخ الطائفة والشيخ الطوسي (385 - 460 ه ق)، الطبعة الأولى 1411 هــ - 1991 م، مؤسسة فقه الشيعة بيروت – لبنان، ص 782
[16] الأمالي، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن موسى بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق، تحقيق قسم الدراسات الاسلامية في مؤسسة البعثة، الطبعة: الاولى 1417 ه. ق، مؤسسة البعثة، قم، ص 190-191 .
[17] الأمالي، مصدر سابق، ص 190 .
فقد ورد في الروايات الشريفة أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان (يبكي)[1] (وينتحب) [2] وفي بعضها (ينشج)[3] على مصيبة الإمام الحسين عليه السلام، والنحيبُ كما في المعاجم هو: (البكاء الشديد أَو تَنَفُّس سَريع عَنيف مُتَقَطِّع مَصْحوب بالبكاء ناتِج من انفِعال وتَقَبُّض تَشَنُّجيّ واخْتِلاجات مُتتابِعة في عَضَلات الصَّدْر)[4]، وأمّا النشيج فهو: (الصوت . والنشيج : أشد البكاء ، وقيل : هي مأقة يرتفع لها النفس كالفؤاق . وقال أبو عبيد : النشيج مثل البكاء للصبي إذا ردد صوته في صدره ولم يخرجه) كما في لسان العرب [5]، ولك أن تطلق الخيال لذهنك لتتصور شدّة بكاء النبي صلى الله عليه وآله وعظيم تفجّعه بالحسين عليه السلام.
وأمّأ مولاتنا الزهراء عليها السلام، فيكفيك لمعرفة عظيم تأثرها أن تقرأ شاهداً روائيا كالذي رواهُ ابن قولويه رضي الله عنه عن أبي بصير رضي الله عنه عن إمامنا الصادق عليه السلام في كتاب كامل الزيارات حيث قال: «يا أبا بصير إن فاطمة لتبكيه وتشهق» [6]، والشهقُ كما في تاج العروس: (إِذا تَرَددَ البُكاءُ في صَدرِه كما في العُبابِ وفي اللسان : رَدد البكاء في صَدرِه) [7].
ولشهقة الزهراء عليها السلام أثرٌ عظيم على الملائكة، ففي الحديث عن عبدالملك بن مُقَرِّن عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «وإنّها- أي الزهراء عليها السلام- لتشهق شَهْقَة فلا يبقى في السّماوات ملك إلاّ بكى رحمةً لصوتها، وما تسكن حتّى يأتيها النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فيقول : يابُنَيّة قد أبكيتِ أهل السَّماوات وشَغَلْتِهم عن التَّسبيح والتَّقديس فكُفّي حتّى يقدّسوا ، فإنَّ الله بالغٌ أمره»[8].
ويتجاوز تأثير شهقة الزهراء عليها السلام المكلومة عاَلم الملائكة، لتشملَ جهنم والبحار[9]، مما حدا بأبي بصير رضي الله عنه – على جلالة قدره- أن يستعظم الخطب، فقال له الإمام الصادق عليه السلام: «أعظم منه ما لم تسمعه»، ثم قال له: «يا أبا بصير اما تحب أن تكون فيمن يسعد فاطمة (عليهما السلام)؟! » فتحولت هذه الكلمات البسيطة إلى ما يشبه البركان في صدر أبي بصير فقال: « ...فبكيتُ حين قالها فما قدرت على المنطق، وما قدرت على كلامي من البكاء، ثم قام إلى المصلي يدعو، فخرجت من عنده على تلك الحال، فما انتفعت بطعام وما جاءني النوم، وأصبحت صائما وجلا حتى أتيته، فلما رأيته قد سكن سكنت .. ».
ولأنّ الرزية عظيمة على أهل البيت (عليهم السلام)، فقد كانت أيام إمامنا السجّاد عليه السلام بعد أبيه مَكسوةً بالحزن والأسى، يقولُ ابن نما في كتابه مثير الأحزان: «فَقَدْ رُوِّیتُ عَنْ وَالِدِی رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَیْهِ أَنَّ زَیْنَ الْعَابِدِینَ (ع) کَانَ مَعَ حِلْمِهِ الَّذِی لَا تُوصَفُ بِهِ الرَّوَاسِی وَ صَبْرِهِ الَّذِی لَا یَبْلُغُهُ الْخِلُّ الْمُوَاسِی شَدِید الْجَزَعِ وَ الشَّکْوَى لِهَذِهِ الْمُصِیبَةِ وَ الْبَلْوَى بَکَى أَرْبَعِینَ سَنَةً بِدَمْعٍ مَسْفُوحٍ وَ قَلْبٍ مَقْرُوحٍ یَقْطَعُ نَهَارَهُ بِصِیَامِهِ وَ لَیْلَهُ بِقِیَامِهِ فَإِذَا أُحْضِرَ الطَّعَامُ لِإِفْطَارِهِ ذَکَرَ قَتْلَاهُ وَ قَالَ وَا کَرْبَاهْ وَ یُکَرِّرُ ذَلِکَ وَ یَقُولُ قُتِلَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ جَائِعاً قُتِلَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ عَطْشَاناً حَتَّى یَبُلَّ بِالدَّمْعِ ثِیَابُهُ»[10]. ويروي الإمام الباقر عليه السلام أنّ مولى لإمامنا السجاد عليه السلام استكثر شدة تفجعه قائلًا: يا ابن رسول الله أما آن لحزنك أن تنقضي؟!، فقال له: «ويحك إن يعقوب النبي عليه السلام كان له اثنا عشر ابنا فغيب الله عنه واحدا منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حيا في الدنيا وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟!». [11]
ولذكر الحسين عليه السلام عند إمامنا الصادق عليه السلام وقعٌ عظيم، فعن أبي عُمارة المُنشِد قال: «ما ذُكِرَ الحسين عليه السلام عند أبي عبدالله عليه السلام في يوم قطّ فَرُئيّ أبو عبدالله مُتَبَسِّماً في ذلك اليوم إلى اللّيل وكان يقول : الحسين عليهالسلام عَبرة كلِّ مؤمن».[12] وإذا جاء يوم العاشر من محرم انكسف لونه وتحادرت الدموعُ على خديه مثل حبّات اللؤلؤ، فقد روى الشيخ الطوسي رحمه الله في مصباح المتهجّد [13] والمشهدي رحمه الله في مزاره [14] بسندٍ صحيح عن عبد الله بن سنان قال: «دخلت على سيدي أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام في يوم عاشوراء فألفيته كاسف اللون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط. فقلت: يا ابن رسول الله! مم بكاؤك؟ لا أبكي الله عينيك، فقال لي: أو في غفلة أنت؟ أما علمت أن الحسين بن علي أصيب في مثل هذا اليوم؟»[15].
وأمّا إمامنا الكاظم عليه السلام، فقد كان يَتَجلبَبُ بالحزن ويصطبغُ بالكآبة في أيام الحسين عليه السلام، يقولُ إمامنا الرضا عليه السلام في صفة حزن أبيه (ع): «كَانَ أَبِي إِذَا دَخَلَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُرَى ضَاحِكاً ، وَ كَانَتِ الْكَآبَةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْضِيَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْعَاشِرِ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وَ حُزْنِهِ وَ بُكَائِهِ ، وَ يَقُولُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ»[16].
وعلى نهجه سار إمامنا الرضا عليه السلام، بحيث تقرّحت أجفانه من شدة البكاء في ذلك يقول: «إِنَّ يَوْمَ الْحُسَيْنِ أَقْرَحَ جُفُونَنَا ، وَ أَسْبَلَ دُمُوعَنَا ، وَ أَذَلَّ عَزِيزَنَا بِأَرْضِ كَرْبٍ وَ بَلَاءٍ ، أَوْرَثَتْنَا الْكَرْبَ وَ الْبَلَاءَ إِلَى يَوْمِ الِانْقِضَاءِ ،فَعَلَى مِثْلِ الْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ الْبَاكُونَ ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ عَلَيْهِ يَحُطُّ الذُّنُوبَ الْعِظَامَ»[17]، وفي استخدام الإمام عليه السلام لضمير الجمع، إشارة إلى أنّ هذا هو حال جميع أهل البيت عليهم السلام.
وما هذه النصوص إلا غيضٌ من فيض في بيان حال المعصومين عليهم السلام مع مصيبة الحسين عليه السلام، وما يعتريهم من تغيّر حال، فإذا رأيت مؤمناً متجلببًا بالكآبة يَنْحَبُ في مجلسِ عزاء مولاه، و آخرَ يصرخُ ويندب، وثالثًا ينخسفُ حاله فلا طاقة له لمفاكهة، ولا شهيّة لديه لطعام أو شراب، فاعلم أن هذا هو الأصل في التأسي، لا أنّه أمرٌ مبالغٌ فيه، وحريٌّ ببعضِ مَنْ يَستعظمُ ما يَحلُّ بالآخرين من انخساف حالٍ من أثر الرزيّة، أن يوجّه اللوم لتقصيره!!!
--------------------------------
[1] جمع الأخ الشيخ إبراهيم جواد والأخ محمود جناحي طائفةً مما صحّ من بكاء رسول الله صلى الله عليه وآله على الإمام الحسين عليه السلام في كتابٍ يمكنُ مطالعته عبر الرابط التالي: https://alfeker.net/library.php?id=4578
وفي الإجمال، فبكاء النبي صلى الله عليه وآله على الحسين عليه السلام متواترٌ.
[2] إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى: 840هـ)، تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم، تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي بإشراف أبو تميم ياسر بن إبراهيم، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999 م ، دار الوطن للنشر، الرياض، كتاب المناقب: مناقب الحسين بن على بن أبي طالب رضي الله عنهما ج 7 ص 238، وقال البوصيري بعد إدراج الحديث: "رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مُخْتَصَرًا عَنْ عَائِشَةَ أَوْ أُمِّ سَلَمَةَ عَلَى الشَّكِّ."
[3] رواهُ الطبراني في المعجم الكبير بإسناده عن الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثنا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، ورواهُ أبونعيم في كتاب معرفة الصحابة بإسناده عن جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، ثنا أَبُو حُصَيْنٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَن أُمِّ سَلَمَةَ، وقال السيوطي في جامع الأحاديث: " أخرجه الطبرانى (3/108، رقم 2819) ، قال الهيثمى (9/189) : رواه الطبرانى بأسانيد ورجال أحدها ثقات."
المعجم الكبير، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (المتوفى: 360هـ)، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية – القاهرة، الطبعة: الثانية، دار الصميعي - الرياض / الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1994 م، مسند النساء، مسند أم سلمة، ج 23 ص 289 ح (637).
معرفة الصحابة، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني (المتوفى: 430هـ)، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، الناشر: دار الوطن للنشر، الرياض الطبعة: الأولى 1419 هـ - 1998 م، ج 2 ص 666 ح(1783).
جامع الأحاديث، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) ضبط نصوصه وخرج أحاديثه: فريق من الباحثين بإشراف د على جمعة (مفتي الديار المصرية) طبع على نفقة: د حسن عباس زكى، مسانيد النساء: مسند أم سلمة، ج 40 ص 264 ح (43610).
[4] معجم اللغة العربية المعاصرة، د أحمد مختار عبد الحميد عمر (المتوفى: 1424هـ) بمساعدة فريق عمل الناشر: عالم الكتب، الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م، ج 3 ص 175
[5] لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (المتوفى: 711هـ) الناشر: دار صادر - بيروت الطبعة: الثالثة - 1414 هـ، باب (ج) فصل النون، ج 2 ص 377.
[6] كامل الزّيارات، أبو القاسم جعفر بن محمد بن بن جعفر بن موسى بن قولويه القمي رحمه الله، الناشر: مكتبة الصدوق، (باب 26) بكاء جميع ما خلق اللّه على الحسين بن عليّ عليهماالسلام، ص 85 ح (7).
[7] تاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205هـ) المحقق: مجموعة من المحققين، دار الهداية، ج 25 ص 540
[8] كامل الزيارات، مصدر سابق، ص 92 ح (16)
[9] كامل الزيارات، مصدر سابق، ص 85 ح (7)
[10] مثير الأحزان، الشیخ نجم الدین جعفر بن محمد بن جعفر بن هبه الله بن نما الحلی (ره) (المتوفى سنة 645 ه)، تحقیق و نشر : مدرسه الامام المهدی (علیه السلام) قم المقدسه، الطبعه الثالثه: 1406 ه ق ، مطبعه أمیر-قم، ص 115.
[11] الخصال، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (المتوفى 381 ه)، تحقيق: علي أكبر الغفاري، طبعة 1403 هـ، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة، 517-519 ،ح (4)
[12] كامل الزيارات، مصدر سابق، ص 116 ح (2).
[13] مصباح المتهجد، أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي المشتهر بشيخ الطائفة والشيخ الطوسي (385 - 460 ه ق)، الطبعة الأولى 1411 هــ - 1991 م، مؤسسة فقه الشيعة بيروت – لبنان، ص 782
[14] المزار، الشيخ محمد بن المشهدي، تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني، الطبعة: الاولى: 1419 هـ ، مؤسسة النشر الاسلامي، قم ، ص 473
[15] مصباح المتهجد، أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي المشتهر بشيخ الطائفة والشيخ الطوسي (385 - 460 ه ق)، الطبعة الأولى 1411 هــ - 1991 م، مؤسسة فقه الشيعة بيروت – لبنان، ص 782
[16] الأمالي، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن موسى بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق، تحقيق قسم الدراسات الاسلامية في مؤسسة البعثة، الطبعة: الاولى 1417 ه. ق، مؤسسة البعثة، قم، ص 190-191 .
[17] الأمالي، مصدر سابق، ص 190 .
تعليقات
إرسال تعليق