سؤال حول الدفن في الغريّ
يقول السيد السيستاني (حفظه الله): "يُكرَه نقل الميت من بلد موته إل بلدٍ آخر إلا المشاهد المشرّفة والمواضع المحترمة؛ فإنه يُستَحَب، ولا سيّما الغريُّ والحائر الحسيني، وفي بعض الروايات أن من خواص الأول إسقاط عذاب القبر ومحاسبة منكر ونكير..."(1)، وعلى إثر ذلك يسأل بعض المؤمنين عن الروايات التي أشارت لسقوط عذاب القبر عند الدفن في الغريّ؛ إذ لم تقع عليها عيناه، وهنا أذكر جوابًا لذلك مع بعض التوضيح.
أما روايات إسقاط عذاب القبر عند الدفن في الغري، فالظاهر من مراجعة بعض كتب الاستدلال أنهم اعتمدوا على ما قاله الديلمي في إرشاد القلوب، حيث قال (رحمه الله) متحدِّثًا عن الغري: "ومن خواصّ تربته –أي تربة الإمام علي (عليه السلام)- إسقاط عذاب القبر، وترك محاسبة منكر ونكير للمدفون هناك كما وردت به الأخبار الصحيحة عن أهل البيت (عليه السلام)"(2)، والديلمي فاضلٌ مُحَدِّثٌ صالح –كما يُعبِّر عنه الحر العاملي (رحمه الله)(3)-، وقد أخبر بوجود الروايات، وإن لم ينقل نصوصَها، وعلى هذا اعتمد بعض الفقهاء مِمَّن قال بذلك، فأخبرونا نقلاً عن هذا العالم الثقة الجليل بوجود روايات تحمل هذا المضمون.
وربما طرق سمع السائلين إثارةٌ للبعض حول هذا الموضوع، فتساءلوا على إثرها: وكيف يفتي الفقيه برواياتٍ لم يرَ نصوصَها؟ وللجواب على هذا السؤال لا بُدَّ من التأمُّل قليلاً والعودة لفتوى السيد، فلنَعُد للفتوى ونتأمَّل.. سنجد:
أولاً: أن السيد (حفظه الله) ذكر استحباب نقل جثمان الميت للمشاهد المشرفة والمواضع المحترمة، وهذه فتوى، أما الكلام عن ورود روايات تتضمّن رفع عذاب القبر للمدفون في الغري، فليس بفتوى، بل مجرّد إخبارٍ معرفيٍ بأثرٍ مذكورٍ لهذا العمل في بعض الروايات، وهنالك فرقٌ كبيرٌ بين الأمرَين.
ثانيًا: بالنسبة للحكم باستحباب الدفن في المشاهد المشرفة والمواضع المحترمة، فإن الفقهاء الذين يفتون بالاستحباب يذكرون عدة روايات وصلتنا بنصوصها، ومنها –على سبيل المثال-: ما رواه ابن قولويه بسنده عن الصادق (عليه السلام): "إن الله (تبارك وتعالى) أوحى إلى نوح (عليه السلام) وهو في السفينة أن يطوف بالبيت أسبوعًا، فطاف بالبيت كما أوحى الله إليه، ثم نزل في الماء إلى ركبتَيه، فاستخرج تابوتًا فيه عظام آدم، فحمل التابوت في جوف السفينة... إلى أن يقول: فأخذ نوح التابوت، فدفنه في الغريّ"(4)، ومنها ما يتحدث عن مكة وغيرها.
ثالثًا: يقول السيد السيستاني (حفظه الله) في كتاب التقليد من المنهاج: "إن كثيرًا من المستحبات المذكورة في هذه الرسالة يبتني استحبابها على قاعدة التسامح في أدلة السنن، ولمّا لم تثبت عندنا، فيتعيَّن الإتيان بها برجاء المطلوبية... "(5)، وكلام السيد محمد سعيد الحكيم (حفظه الله) في ذلك أوضح وأصرح؛ إذ يقول: "إن كثيرًا من المستحبات المذكورة في هذه الرسالة يبتني استحبابها على ذكر العلماء لها أو ورود بعض الأخبار بها وإن لم تكن معتبرة السند، فيحسن الإتيان بها برجاء المطلوبية... "(6)، وعليه، فحتى لو تنزَّلنا جدلاً وقلنا أن تلك فتوى، فهي داخلةٌ في دائرة الإتيان برجاء المطلوبية؛ إذ هي روايةٌ وإن لم يُذكَر سندُها، وإن رويَ شيءٌ من معناها دون نقلها بالنص.
هذا وقاعدتا التسامح في أدلة السنن والإتيان برجاء المطلوبية من القواعد الفقهية التي يناقشها أهل الاختصاص في دوائر البحث العلمي بكلِّ جديّةٍ في مختلف زواياها، والبحثُ في المصادر والمراجع ونسبتها لمؤلفيها وتفاصيلها وتمحيصها مِمَّا يبذل فيه الباحث الجاد جهده مُنَقِّبًا عن قرائن النفي والإثبات متجهًا من مخطوطٍ لآخر، مُدقِّقًا في الهوامش والحواشي والتملكات، وحتى استحباب نقل الجثمان للمواضع المشرفة وغير ذلك... ، فلا يغرنَّك عبث العابثين واستسخاف المستسخفين لعقول الناس واستسذاجهم واستصغارهم لشأن متابعيهم، سواءٌ كان الاستخفاف بوعي الناس وعقولها في هذه الموارد أو في سواها.
--------------------------
(1) منهاج الصالحين (السيستاني): ج1، ك الطهارة، مبحث4 الغسل، مقصد5 غسل الأموات، ف8 الدفن، م323، ص106 [ط19 دار المؤرخ العربي].
(2) إرشاد القلوب: ج2، ب الفضائل الثابتة له ع بعد مضيه ووفاته، في فضائل مشهده الشريف، الثاني: فضل مشهده الشريف الغروي...، ص347 [ط5 دار الأسوة].
(3) أمل الآمل: ج2، ت211، ص77 [ط2 مؤسسة الوفاء].
(4) كامل الزيارات: ب10 ثواب زيارة أمير المؤمنين ع، ح2(91)، ص90 [ط6 مؤسسة نشر الفقاهة].
(5) منهاج الصالحين (السيستاني): ج1، ك التقليد، م31، ص15 [ط19 دار المؤرخ العربي].
(6) منهاج الصالحين (الحكيم): ج1، ك التقليد، م21، ص17 [ط7 دار الهلال].
تعليقات
إرسال تعليق