ثلاث رصاصات!
![]() |
الشيخ حسين الحربي |
أنا الآن يا صديقي على كرسيّ الطائرة في رحلةٍ طويلةٍ تزيدُ على اثنتي عشرةَ ساعة وبجواري مسافرٌ لا أعرف من أيِّ أهلِ الأرض هو! أزعجني منذُ بداية الرحلة بحديثه المملِّ جداً، ولكنَّه -والحمدُلله- يغطُّ في نومٍ عميقٍ منذُ أكثرَ من سبعِ ساعات، وأسأل الله أن يطيلَ نومه حتى نهاية الرحلة إنَّه على كُلِّ شيء قدير، عسى أن أنشغلَ بما بين يديّ مِن مُؤلفات لأشخاصٍ لا أحبُّ توجّهاتِهم الفكريّة ولا أحبُّ ما يكتبون ولا أعلمُ صراحةً لِمَ لا زلت أعكّر مزاجي بالقراءة لنتاجِهم وجديدِ هُرائهم؟! -الذي هو في حقيقته نفس هرائهم السابق قد أُعيد تدويره-.
ولا أخفيك يا من تقرأ سطوري معلومةً لا تنفعُ مَن علِمَها ولا تضرُّ مَن جهِلَها، أنّني كثير السرَحان في الفترة الأخيرة! وأعني بالفترة الأخيرة آخر ثمانٍ وعشرين سنة من حياتي وهي كل سنواتي منذ ولادتي!
وبينما أنا منغمس في كُتب من ذَكَرتُهم لك آنفاً، فكّرت في ظاهرةٍ بدأت تنتشرُ مؤخّراً، ودائماً ما يتصدّى لـ "أفرادها" من عُجنت الغيرةُ على الحقيقة في قلبِه، وأَردف غيرتَه توفيق إلهي للذود عنها.
ولعلّك لاحظت أنني لم أقل يتصدّى للظاهرة وإنّما قلت: "يتصدّى لأفرادها" أي يتصدّى لمصاديق هذه الظاهرة، وهنا سأفكر -معك- بصوت مرتفع في هذه الظاهرة بما هي هي، واضعاً كُلَّ المصاديق والأفراد في سلّة واحدة فأستغني بذلك عن تتبع هرائهم باحثاً عن حكم كلّي يأتيهم عن آخرهم ليضعَهم في مكانهم الصحيح في عُقيلي -تصغير عقل- المسكين.
وقبل البدء... تذكّر! هناك ثلاث رصاصات تُطلق علينا سنُحلِّلها نفسياً بطريقة "حربيّة" لا فرويديّة!
في كل حين يظهر لك من يتشرنق بزيّ أهل العلم مرتدياً عمامتهم مكسوّاً بجبّتهم منمّقاً كلماته أو كتاباته باستخدام مفردات "حوزويّة" يعرفها من وفّقه الله لهذا المسلك الشريف أو كان مهتماً به.
تخاله عند النظر إليه أحدَ أهل ِالعلم والتحصيل الشرعيّ. وهذا بعينه مايريده منك، إنّها الصورة النمطيّة التي تحضر في ذهنك نابعةً من صدق نيّتك وحُسن سريرتك، هو يريدُك أن تتشبَّعَ بهذه الصورة قبل أن تسمع منه مقالتَه أو قل "ترّهاته" فكلمة "ترّهات" أدقّ في الوصف وأبرأ للذمّة! وهنا يكون قد أطلق الرصاصة الأولى عليك! فرصاصته الأولى إذاً: (الصورة النمطيةّ الطيّبة).
تخيّل أنك تعيشُ في مكان مع خمسة أشخاص، وأحدهم لا همَّ له ولا شُغل إلّا "التفكير" في عيوبك، هل كنت ستُطيقه؟!
ولاحظ أنني قلت "التفكير" في عيوبك وليس مجرّد تنبيهك على عيوبك؛ لأنني أعتقد أنّ هذه أزمة المعاصرين في الخلط بين النقد كعنصر فكريّ والنقد كوسواس قهريّ! أن يكون النقد "من" فِكرك وثقافتك وهو أحد عناصره فهذا يعني أنك تستعين به لكشف الحقيقة عند الحاجة اليه، لكن أن يكون النقد هو كلّ فكرك وثقافتك وليس فقط أحد عناصره فهذا وسواس قهري، فمن الخطر فكرياً أن تُصبح مِعوَلاً يهدم ولا يجيد البناء، وكلّ نتاج فكرك هو الهدم لا البناء، كرجل يهدم بيوت الناس لأن تصاميمها لا تروقه، دون أن يبني لهم بيوتاً ليسكنوها عِوضاً عن الثمن الباهظ لذائقته العوجاء والتي دفعته لهدم بيوتهم!
إذا تنبّهت لما سبق، فإني أبشّرك أنك بدأت تجمع شتات القطيع، وأصبحت قادراً على فرزهم ولربما كنت ألمعياً ذكياً فتقفز خطوات الى الأمام وتخلق لهم تصنيفاً جديداً في ذهنك وتعطيهم صورتهم النمطية الحقيقيّة، أوليس هم من استخدموا الرصاصة الأولى؟! وقد قالت العرب "يداك أوكتا وفوك نفخ".
وبمناسبة ذكر الرصاصة نعود لأصل المقال..
بعد أن يتأكد من انغماس الصورة النمطية الطيّبة في ذهنك، سيبدأ وسواسه القهري بالعمل تلقائياً، فيختار أموراً سطحيةً بسيطة ينتقدها بأسلوب لطيف كلطافة بِكرٍ يوم عُرسها، وهو هنا حريص جدّاً على حضور الصورة النمطية في ذهنك، إضافة إلى فذلكة لُغوية تمتاز بأمرين، أولهما: لغة الخطاب الناعمة وثانيهما: لعبة المصطلحات "الحوزوية" والتي يهدف من ورائها إثبات مكانته العلمية في ذهنك، واستخدامه لهذه المصطلحات يحتاج براعةً بحيث لا يُسرف في استخدامها ممّا يجعل الطرحَ نُخبوِيّاً لا يناسبُ عامة الناس فينتهي مشروعه؛ إذ النخبة تعي جهالاته، أمّا البارع منهم من يستخدم المصطلحات بطريقة ميسّرة لا تُخرج عامة الناس من الفئة المستهدفة.
فإذا نجح في ذلك، يكون الرجل قد أوجَد نفسه في ذهنك على أنه صاحب الصورة النمطيّة الجيّدة والذي ينتقد بأسلوب علمي بسيط. وهنا .. يكون قد ضغط زناد الرصاصة الثانية! إذاً: فـ(اللغة والمصطلح) هي الرصاصة الثانية.
يهدف بعدها الى الموازنة في ما يطرح مع الارتقاء في خطر المسائل المستهدفة لِِـمِعوَل عقله المبتلى بالوسواس القهري، فتختفي لطافة البِكر لتحلَّ محلَّها قلّةُ حياء، وغالباً ماتكون قلّة الحياء ضمنيّة فلا تشمل السباب والشتائم، بل تكون مما يصدق عليه أنّه إهانة في نظر النّخبة لا العامة، ومعلوم أنّ الموازين العُرفية تختلف بحسب طبقات المجتمع الفكرية، فلربّما كلمة ساذج لو قيلت في حق شخصية مرموقة كعالم مجتهد -مع أنها نُسبت لنبيٍ معصوم في زمننا هذا والمرجع لله- لما عدّها عامة الناس إساءةً مع أنها كذلك في عين النخبة، والهدف من هذه الازدواجية هو استجلاب الردود عليه، فبالردود عليه سيُعرف أكثر ويُشتَهَر أمرُه!
وهنا لا نخطّئ كل معقّب عليهم، فالحاجة إلى ذلك ضرورية ولكنهم يستفيدون من هذه الضرورة، فإذا ما حمي وطيس المعركة الفكريّة واصطكت جيوش الآراء مدّرعةً بالأدلة، صرخ بالمظلوميّة وبأحادية فكر مخالفيه وداعشيتهم وتخلّفهم، بل وحقدهم عليه لنبوغه!! وعندها يكون قد أطلق رصاصته الثالثة عليك، فالرصاصة الثالثة إذاً: (العويل بالاضطهاد الفكري والمظلومية)!
هذه ياسيدي العزيز الرصاصات الثلاث، والتي بحسب متابعتي القاصرة، وجدت أنّ من يجيدُ استخدامها يعلو صيته ويكسب ما ينال في دنياه الفانية، ومَن فشل فيها سقط ولم ينهض بشيء.
وهذا الأخير، أعني من فشل في استخدام الرصاصات الثلاث هو أحمق الحمقى الذي خسر دنياه وآخرته! ويحضرني مثال أعفّ عن ذكره هاهنا، فبغبائه قد فشل في الفشل! أي أنه فاشلٌ مرفوع للأسّ الثاني.
وختاماً أشكرُك إذ بلغت هذا السطر، فهذا يعني أنك أكملت القراءة ولم تملّ من سوء قلمي، تعدّدت وجوه هؤلاء مؤخراً فتارة تجد من ينتقص النبي صلى الله عليه وآله ويسيء للسيدة الزهراء (ع) في نقده الأعوج لرواية حضورها يوم العرض حين يغض الناس أبصارهم وهذا أبلدهم، وتارة تجد من يعيش في "الفيسبوك" وكل تشغيباته عبارة عن منشورات لم يدع فيها محلّاً لذكر الخير، قد انقلب على عقبيه بعد أن غدر به أستاذه الذي آلى أن يستأثر بالإناء وحده، قبل أن يفتي بحواز التعبّد بكل المذاهب! فيكون لك الخيار في أن تكون موالياً لأمير المؤمنين (ع) أو داعـشياً يتعبد الله بقتل المُوالي للأمير (ع)، والتلميذ والأستاذ أصبحا خصمين يكره أحدهما الآخر ولكنّهما اتفقا على أن يكون كل نتاجهم عبارة عن محاولات شدّ للانتباه، وتارة تجد من يأخذ الشهيق لا ليتنفس! بل ليتكلّم في مؤسسة الحوزة بطريقة تكشف جهداً كبيراً في غير محلّه، يستنزفه صاحبه للتنفيس عن عُقَدٍ لا يستفيد منها المستمع شيئاً حتى وصلَ لبثّ محاضرات تمتد لست ساعات! ولا زلت أعجب لطول صبر المصوّر.
اِعرفهم يا صديقي.. اِعرفهم واعرف رصاصَهم وقاك الله شر رصاصِهم، وتذكّر شيئا أخيراً: وهو أن الشيعة على مرّ التاريخ ابتلوا بكل بلاء، ولكن أخطره ما نمرّ به اليوم وهو الفتنة في البصيرة، فغاية ما تصيبك به فتنة السيف أن تقتلك فتأخذ منك دنياك وتعطيك آخرتك ؛لأنها تنقلك إليها شهيداً، أمّا فتنة البصيرة فهي إن تمكنت منك .. أخذت دنياك وآخرتك.
(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (سورة آل عمران: 8 )
تعليقات
إرسال تعليق