عصمة الإمام بين ابن أبي عمير وهشام بن الحكم

علي محمد الحبيب
روى الشيخ الصدوق بسنده عن محمد بن أبي عمير أنه قال: (ما سمعت و لا استفدت من هشام بن الحكم في طول صحبتي له شيئًا أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الإمام، فإني سألته يوما عن الإمام: أهو معصوم؟ فقال: نعم. فقلت: فما صفة العصمة فيه؟ وبأي شي‏ءٍ تُعرف؟ فقال: إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه ولا خامس لها، الحرص والحسد والغضب والشهوة، فهذه منفيةٌ عنه. لا يجوز أن يكون حريصًا على هذه الدنيا وهي تحت خاتمه؛ لأنه خازن المسلمين، فعلى ماذا يحرص؟ ولا يجوز أن يكون حسودًا؛ لأن الإنسان إنما يحسد من فوقه، وليس فوقه أحدٌ، فكيف يحسد من هو دونه؟ ولا يجوز أن يغضب لشي‏ء من أمور الدنيا إلا أن يكون غضبه لله (عزّ وجل)؛ فإن الله عز و جل قد فرض عليه إقامة الحدود وأن لا تأخذه في الله لومة لائم ولا رأفة في دينه حتى يقيم حدود الله (عزّ وجل). ولا يجوز له أن يتبع الشهوات ويؤثر الدنيا على الآخرة؛ لأن الله (عزَّ وجل) حبَّبَ إليه الآخرة كما حبب إلينا الدنيا، فهو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدنيا، فهل رأيت أحدًا ترك وجهًا حسنًا لوجهٍ قبيح؟ وطعامًا طيبًا لطعامٍ مُر؟ وثوبًا لينًا لثوبٍ خشن؟ ونعمةً دائمةً باقيةً لدنيًا زائلةٍ فانية) [معاني الأخبار ص133].

وقد يُدّعى أن سؤال ابن أبي عُمَير كاشفٌ عن عدم وضوح أصل وجود العصمة عندَه، لكنّ هذا دعوى من غير دليل، فإن السؤال –بمجرّده- ليس دليلاً على الجهل بالمسؤول عنه، فالله تعالى يقول: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ)، مع أنّ الله (سبحانه) عالمٌ بكل شيء، ذلك أن السؤال أعمّ من الجهل بالمسؤول عنه.

فإن قيل: ما الذي دعا محمد بن أبي عمير لأن يسأل هشامًا هذا السؤال؟ قلنا: هذا ظاهرٌ من ملاحظة حال ابن أبي عمير وحال هشام، إذ إنّ هشامًا قد عُرِفَ بقوّة نظرهِ الفكري وحُسن استدلاله العقلي، فالسؤال إذًا سؤالٌ عن الجواب المبني على النظر العقلي في إثبات العصمة، وليس سؤالاً عن أصل العصمة، والقرينة على ذلك هي ملاحظة حال المسؤول. وهذا نظيرُ أن يُوجّه سؤالان بنفس الصيغة، أحدهما يوجّه لكيميائي والآخر يوجه لفيزيائي، فإنّ المطلوب من كل واحدٍ ما يناسبُ تخصّصه وما عُرِفَ به، إذ إنّ صفة المسؤول قرينةٌ على تعيين المقصود من السؤال.

والظاهر من سؤال محمد بن أبي عمير -بملاحظة هذه القرينة-: ما هو دليلك المبني على النظر العقلي على لزوم عصمة الإمام؟ فكأنّه يقول لهشام: إني أعتقدُ عصمة الإمام، ولي على عصمة الإمام أدلةٌ نقليّة ودليلٌ عقليٌ مشهورٌ على الألسن، ولكنّك متخصصٌ في البحوث العقلية، فلك طريقٌ لا يعرفه عامّة الناس، فما هو؟ فبيّن هشام دليله هذا. فابن أبي عمير -إذًا- لا يجهلُ العصمة ولا ينكرها ولا يسأل عنها، وإنما يسأل عن الدليل المبنيّ على النظر العقلي عليها الذي لا يعرفه العامة.

وأما قوله "هل الإمام معصومٌ؟"، فهذه طريقةٌ متعارفةٌ في السؤال عن الدليل الخاص الذي لدى المسؤول، وجرت عليها العادة حتى في معاهد العلم، فإن التلميذ يسأل أستاذه عن أشياء مسلّمة بينهما ولكنه يريد استدراجه في البحث ليبيّن الدليل من بدايته، فالسؤالُ عن شيءٍ لا دلالة فيه على إنكاره ولا على الجهل به بالضرورة.

فإن قيل: إن جوابَ هشام ونقلَ ابن أبي عمير له يدلاّن على أنهما إنما يلتزمان بعصمة الإمام في السلوك دون غيره، قلنا: لابدَّ أن نعرف ما هو مطلوب ابن أبي عمير أوّلاً. فإن كان مطلوبه هو السؤالُ عن الدليل على العصمة الذي تبطل به إمامة غير أهل البيت، فيكفي في ذلك إثبات عصمتهم (عليهم السلام) في جهةٍ واحدةٍ، ولو كان ذلك في إثبات عصمتهم بعد ثبوت الإمامة لهم. نعم، لو قال هشام: ليس للعصمة دليلٌ إلاَّ هذا، صحَّ أن نُلزمَه بحدود ما يُثبته ذلك الدليل، ويؤاخَذ على القول فيها بما هو أزيد من تلك الحدود. وأمّا لو كان بصدد بيان دليلٍ من أدلة العصمة، وليس بصدد بيان كل الأدلة عليها فإنّ هذا الإيراد لا يأتي.

وأما ما يُثيره البعض من أنّ هشامًا هو من أدخل بعض المعتقدات عند الشيعة وينبغي النظر في سيرته وما جرى مجرى ذلك، فالجواب عنه ما قاله الشاعر: 
كتابي سر في الأرض واسلك فجاجها .. وخلِّ عباد الله تتلوك ما تتلو
فما بك من أكذوبة فأخافها .. ولا بك من جهل فيزري بك الجهلُ

إنّ هذه الإثارات من الغمز وباب الغمز مفتوح حتى على الله (سبحانه)، ففرعون قال لوزيره (اجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ)، وقال لقومه (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)، وبعض أقوام الأنبياء اتّهموا أنبياءهم بالسحر والجنون. وهذا تابعٌ لما جعله الله (سبحانه) للعباد من الحريّة التكوينية –لا التشريعية- في الكلام، وتابعٌ لحكمته التي اقتضت أن لا يُجبر العباد على الطاعات وترك المعاصي، فيمكن أن يدّعي مدَّعٍ النبوة والإمامة، بل يمكنه أن يدّعي الألوهية. وما ذُكر في حقّ هشام بن الحكم تهمة، والتهمة دعوى تحتاج إلى دليل. وقديمًا قيل: والدعاوى مالم تقيموا عليها بيناتٍ، أبناؤها أدعياء.

تعليقات

  1. احسنتم ويضاف إلى ذلك وجود روايات مادحه لهشام وقد تكون أكثر بكثير من الذامه فلا ينبغي أن ننظر إلى جهة ونغض الطرف عن الأخرى

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

هل ورد أن "أبا صالح" كنيةٌ للمهدي عج؟